أزمة الوعي العربي .. في القرن الحادي والعشرين .. ودور ذلك في الثورات العربية 1/3
أزمة الوعي العربي .. في القرن الحادي والعشرين .. ودور ذلك في الثورات العربية 1/3
د.صالح السعدون
ومنذئذ , وقد يكون قبل ذلك , والمجتمع العربي قد تعلم الخنوع والخضوع للديكتاتورية , فقد جمدت مبادئ محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم و أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ,
الصورة للسلطان العثماني سليم الأولأزمة الوعي العربي .. في القرن الحادي والعشرين .. ودور ذلك في الثورات العربية 1/3
د.صالح السعدون
الجزء الأول :
المقدمة :
مضت عهود طويلة على عصر الاستعمار الذي طال الأمة العربية ؛ فالعربي ألف المحتل بصيغ مختلفة منذ أكثر من ألف عام , فما بين العنصر المنافس داخل الدولة كالعنصر الفارسي , أو العنصر المتآخي كالعنصر التركي , إلى العنصر العدو كالمغولي أو الصليبي بأجناسه في العصور الوسطى أو الحديثة ؛ وإذا كان العنصر الفارسي لم يشكل تلك الخطورة الكبيرة من حيث الهيمنة على العنصر العربي , كون الحضارة الفارسية حضارة فوران وقتي وتآمر مستمر ؛ أكثر منها حضارة ذات طبيعة خلاقة قادرة على التأثير على الآخرين , إلا أن العنصر التركي الذين دخلوا بالإسلام أفواجا قد بدأ وكأنه متآخٍ مع العربي , شريك في الدفاع عن الحدود السياسية والشرعية , وقد جاء خادماً وجندياً بادئ ذي بدء , ثم أصبح قائداً عسكرياً يمسك بالقيادة العامة للجيش وفرقه العسكرية , ثم سحب بساط العمل العسكري من الشعب العربي نهائياً وأعلن احتكار الجندية العسكرية الذي اقتصرت على العنصر التركي دون غيره , وأخيراً سيطر على الوزارة والدواوين وكبار شخصيات الدولة بحيث أُبعد العنصر العربي نهائياً عن قيادة الدولة .
حاول العرب التمرد على هذا القرار منذ عهد الدولة العباسية حين تمكنت قبيلة بني حمدان من إعلان دولتها في شمال العراق وشمال سوريا , وقبلهم الأمويين في الأندلس الذين رفضوا الخضوع للدولة العباسية القائمة على العنصر الفارسي , بينما أعلن الفرس التمرد – فيما بعد – على هذا القرار التركي ؛ حين أعلنت دولة الفرس الطاهرية , ثم السامانية , ومن بعدها القرمطية و البويهية .
وفي الوقت الذي يبدو أن العرب قد أصابهم داء المدنية ببغداد ودمشق والقاهرة , فقد تمكن الشعب التركي من استعادة زمام المبادرة ورفض أن يترك قيادة الأمة الإسلامية , وفي الوقت الذي قاوم العنصر الفارسي الشعب التركي , طوال القرون الثالث والرابع والخامس , فإن الشعب العربي نظر للأتراك كأخوة تماماً رغم الحيف الذي لحق بهم بمنعهم من دخول الجندية والعسكرية مع أن الإسلام لم يقم إلا على العنصر العربي فقد كانت الأخوة الإسلامية تطغى على كل ما عداها من صلاة الجنس أو الدم .
وقد كانت مشكلة الشعب التركي عموماً أنه ليس من صفاته التي جبله الله عليها ؛ أن يكون شعباً خلاقاً مستنيراً في المبتكرات العلمية أو الفلسفية , والحضارية الأخرى غير العسكرية والعمران , بل ظل شعباً عسكرتارياً قوياً لا ينازعه في الحرب منازع , لذا فقد استعاد من خلال دولة السلاجقة الأولى ثم دولة سلاجقة الروم ومن ثم دولة المماليك زمام المبادرة لقيادة الأمة وألغى كل دور للفرس أو للعرب , وزاد من التحام الشعبين العربي والتركي في مواجهة العنصر الفارسي , وذلك حين حول الصفويون بلاد فارس بالحديد والنار والدم من دولة سنية إلى دولة شيعية , فقد نظر العرب للأتراك بأنهم إخوانهم وحماة دينهم من حيث الدين أو المذهب ؛ بل وحتى الخيارات السياسية , وقد ركز الشعب التركي في العصر المملوكي على النواحي التي حباه الله إياها من القوة وهي الجيوش البرية والعسكرية البحرية والقدرة على التخطيط للسياسة الإقليمية -الدولية من خلال القوة , والقوة وحدها , إلى جانب الحضارة العمرانية من بناء المساجد والقلاع .
حتى جاءت الإمبراطورية العثمانية وسلاطينها الكبار محمد الفاتح وسليمان القانوني وسليم الأول , فتمكنوا أن يسيطروا على السياسة الدولية بشكل نهائي , والقوة العسكرية البحرية والبرية ؛ حيث امتلكت الدولة العثمانية أقوى جيش وأسطول بالعالم آنذاك , وأصبحت إستانبول مركز العالم في السياسة والحضارة .
وبالطبع كان من الطبيعي للأمة التركية الإسلامية – العربية ( التحالف العربي – التركي ) أن تصل إلى الريادة العالمية في كل النواحي التي يبرع فيها العقل متوافقاً مع قوة البدن , ولكن الجنس التركي لم يكن هو الذي قد أجهز على العسكرية العربية منذ عهد المعتصم بالله العباسي ذلك الخليفة العظيم الذي كان كأخواله الأتراك قد بسط له الله الجسم بينما عزف عن العلم , أي منذ عام 220هـ , بل لقد فعل ذلك سلفه وأخيه المأمون حيث أخواله الفرس قبل عقود من حكم المعتصم , وإن ظل للعرب دوراً ثانوياً آنذاك , ولعل ما بين 220هـ وحتى عام 1200هـ قريب من ألف عام , مما يعني استحالة استعادة العربي لقوته العظيمة وخبرته العسكرية الطويلة التي امتدت لمائتي عام منذ معركة ذي قار وحتى مقتل الخليفة العباسي ذو الأبوين العربيين الأمين بن هارون الرشيد , حيث أبعد العربي من قيادة الجيش ومن الوزارة والرياسة التي تداولها الفرس والترك , في ظل صراع بين أجناس الدولة الثلاثة الكبرى العرب والفرس والترك مؤيداً كل منهم بأحد أبناء الخليفة هارون الرشيد الأمين( ابن زبيدة العربية ) والمأمون (ابن مراجل الفارسية ) والمعتصم ( ابن ماردة التركية ) , وكان على الدولة السعودية الأولى أن تستعيد قوة العرب وأمجادهم العسكرية بمزيد من الانضباط و التقيد بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنن الخلفاء الراشدين من بعده كي يصلوا إلى ماوصلوا إليه آنذاك.
عهودا لديكتاتورية والقرارات الفردية
ولعل النواحي العمرانية هي التي يمكن أن يتواءم فيها العقل مع الجسم , لذا فمنذ أن تتلمذ المهندسين الترك في استانبول على يد مائة ألف من العلماء والمهندسين والصناعيين العرب الذين أمر السلطان الكبير سليم الأول بنقلهم معه من مدن المماليك العربية القاهرة والإسكندرية ودمشق والقدس وبغداد وحلب التي افتتحها بعد قضائه على دولة المماليك , ووطنهم في إستانبول في عام 923هـ , فإن ذلك السلطان بقدر ما كان عظيماً بقراراته وسياساته ؛ إلا أنه كان ديكتاتورياُ بشخصيته ؛ حيث لم يكن عزله لوالده الضعيف أمام إسماعيل الصفوي هو الدليل الوحيد على قسوته ؛ فقد روي أنه أمر واليه بدمشق أن يبني مدرسة كبيرة للتعليم في العاصمة الأموية , فلم يجد الوالي شبراً من الأرض غير مبني فاضطر إلى بناء المدرسة خارج دمشق مع تعديل الأسوار حول المدرسة لتكون داخل المدينة بطريقة لم ترضِ السلطان , فسأله حين وصل إلى دمشق : لماذا لم يبنِ المدرسة في الداخل ؟ فبين له أنه لم يكن ذلك ممكناً إلا بمصادرة وهدم بيوت الناس , وهو الأمر الذي لا يريد أن يُبغض أهالي دمشق بالحكم التركي , وبدلاً من مكافأة هذا الوالي العظيم الذي قدر الفقراء أكثر من تقديره لقرار السلطان على حكمته , إلا أن السلطان قد قرر و بدم بارد أن يموت الوالي فوراً بعقوبة الخازوق , والخازوق هو مسمار حديدي كالسيخ بطول الإنسان طرفه مسنن , يسخن على النار حتى يصبح أحمراً من شدة سخونته , فيركز بالأرض ويوضع الرجل على هذا الخازوق في دبره ويضغط والعياذ بالله حتى يخرج مع نافوخه , فيكون قد مات منذ أول وهلة .
ومنذئذ , وقد يكون قبل ذلك , والمجتمع العربي قد تعلم الخنوع والخضوع للديكتاتورية , فقد جمدت مبادئ محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم و أبي بكر وعمر رضي الله عنهما , فقد كانوا قبل اتخاذ أي قرار يرجعونه إلى سبعين رجلاً من أهل الحل والعقد من مجلس الشورى , ولا يتخذ أي قرار مصيري للأمة إلا بعد موافقة أغلبيتهم , لقد جمدت تلك المبادئ في كتب الشريعة والتاريخ .
ليس كذلك فحسب ؛ بل بقدر ما جاهد هذا الجنس التركي العظيم عن الأمة , وقام بحمايتها بأجساد جنده العظماء وأرواحهم , إلا أنهم من زوايا أخرى فقد اهتموا بالحدود العربية من أطرافها من المحيط إلى الخليج من أن يستبيح دماؤه أي جندي صليبي من البرتغال أو الأسبان أو غيرهم ؛ لكنهم أهملوا الأرض العربية وتطويرها في الزراعة والصناعة والإنسان العربي وتعليمه , وتعويضه عن جيش من العلماء سحبوا بقوة السلطان إلى إستانبول لتصبح العاصمة العثمانية زاهرة ولكن على حساب العواصم العربية الأموية والعباسية والحمدانية وغيرها , حيث أصبحت تلك العواصم فجأة تفتقد العلماء والعلم والخبراء والخبرة , بل لقد رفضوا مشاركة العرب لهم بالإدارة والحكم أو القيادة بالجيش , وأبطلوا النظام الاقتصادي العربي النقدي ؛ واستبدلوه بالنظام الإقطاعي البويهي الفارسي ؛ مما جعل الأمة العربية تتخلف كل هذا التخلف الكبير عن ركب الحضارة العالمي إدارياً وسياسياً وصناعياً وزراعياً وغير ذلك من أمور الحضارة ولقرون إلى الوراء , وقد كان لاتكال الأمة العربية على حماية الجندي التركي المسلم ثمناً كبيراً وغالياً تم دفعه بفاتورة لم تنتهِ بعد .
د.صالح السعدون