iالسياسة الخارجية لمنظومة الدول العربية

هل لدى الدول العربية سياسة خارجية؟

23/8/1425 هـ الكاتب د.صالح السعدون

لا تملك حكومة الفلبين أية قوة على الإطلاق , فالاقتصاد ضعيف إلى الدرجة التي لا تملك أية رصيد في هذا المجال كدول الجوار بالنسبة لها كاليابان و كوريا الجنوبية و تايوان والصين وسنغافورة وغيرها , بل إن العمالة الفلبينية رغم تفوقها على الأيدي العاملة الهندية مثلاً غير أنها أقل مهارة وأرخص أجوراً من بين كل دول النمور الآسيوية , كما أنها لا تمتلك أية ميزة جغرافية عالمية فهي لا تسيطر على مضائق مائية إستراتيجية كمضيق هرمز أو باب المندب أو قناة السويس أو جبل طارق , ولعلها أيضاً تفتقر تماماً إلى أية صناعة تكنولوجية أسوة بجاراتها , بل إن الشركات العابرة للقارات لم تجد فيها القدرة كتايوان والصين وسنغافورة وماليزيا لتنقل صناعاتها إلى حيث توجد بنية تحتية كافية لنقل مصانعها إلى هذه الدولة , ولديها عجز عسكري بحيث أنها غير قادرة على التعامل مع الثوار المسلمين الذين يطالبون بحكم ذاتي خاص بهم , وحكمها سيدتين في عقدين من الزمن ليس فيهما واحدة تتصف بصفات المرأة الحديدية في بريطانيا إبان الثمانينيات , أضف إلى كل هذا فإنها لا تمتلك أية ثروة نفطية أو معدنية, بحيث يكون لها أية وزن على السياسة الدولية .

ولهذا كله فإنها تتبع الولايات المتحدة الأمريكية كتابع مباشر منذ استقلالها منذ القرن الماضي , إلى الدرجة أنها لم تستطع رفض طلب أمريكا أن ترسل إلى العراق بضع كتائب من الجيش الفلبيني للمشاركة فيما يسمى بالتحالف الدولي بالعراق .

وتغير موقف الحكومة الفلبينية فجأة حين اختطف الرهينة الفلبيني بالعراق ,واشترط الخاطفون سحب القوات الفلبينية من العراق مقابل إطلاق سراح الرهينة , ونظر العالم إلى المسألة بلا مبالاة , فليس موضوع قتل الرهينة الفلبينية إلأ مسألة وقت ! إذ أن الحكومات الديموقراطية العريقة كالحكومة الفرنسية والإيطالية والبريطانية لم تستطع أن ترفض الاتجاهات المفروضة عليها من جهة خفية ما , متعللة بأنها لن تخضع لابتزاز الإرهاب الدولي .وتضحي بأبنائها الذين انتخبوها على مذبح العزة القومية الكاذبة , فما بالك في هذه السيدة الناعمة التي تقبع على سدة الرئاسة بالفلبين .

وحدثت المعجزة ! إذ أمرت الرئيسة الفلبينية بسحب قواتها من العراق وصرحت إن حياة مواطن فلبيني أب لأسرة من ثمانية أطفال تستحق مثل هذا القرار . لقد جعلت الرئيسة الفلبينية العالم أجمع يعرف كم هي حياة الفرد الفلبيني غالية الثمن . وأصبحت تستحق بجدارة أن تكون رئيسة لهذا الشعب الذي انتخبها .

لم يكن القرار مفاجأة للعالم فحسب , وإنما كان صاعقة بالنسبة للرئيس الأمريكي والمحافظين الجدد بواشنطن , إذ لم يدر في خلدهم أن هذا البلد الفقير قادر عل اتخاذ قرار كبير كهذا القرار .

إنها الديموقراطية , أو سمها ما شئت , إنها احترام حقوق الإنسان هي التي جعلت الرئيسة الفلبينية تتخذ قراراً عجز عن اتخاذه الرئيس جاك شيراك , وتابع أمريكا في لندن بلير ,ورئيس الوزراء الإيطالي الممقوت برلسكوني , فضلاً عن تركيا والدول العربية .

ومن هنا نطرح السؤال المهم : لماذا لا تستطيع الدول العربية مجتمعة أو منفردة أن ترفض ما تمليه الولايات المتحدة الأمريكية عليها من ضغوط سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية واجتماعية بل وحتى تعليمية ؟

لماذا تظل هذه الدول غير قادرة على مقايضة الضغوط الأمريكية من خلال مصالحها القومية أو الإقليمية أو القطرية , يعزو الكاتب الأمريكي الشهير إيمانويل تــــــود في دراسته حول تفكك نظام الولايات المتحدة الأمريكية وقرب سقوطها ((ما بعد الإمبراطورية )) عدم قدرة الدول العربية على مواجهة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إلى (( ضعف العالم العربي , الذي يمثل بحكم طبيعة مسار السياسة الدولية حمل الأضحية )) , إنه كبش الفداء كما يقال , وكما يقول الشاعر العربي :

من يهن يسهل الهوان عليه …….. ما لـجـرح بمـيت إيلام

ولكن السؤال حسب ما ذكرناه بالمقدمة هل العالم العربي – ً سواء كمجموعة دولية ذات خصائص يتوقع أن تحارب من أجل خصائصها الكثيرة الخاصة بها أو كدول قطرية متفرقة – أكثر ضعفاً من الفلبين حكومة وأمة ؟ ! .

إن العالم العربي يسيطر على أكثر المواقع الإستراتيجية خطورة في العالم , ولديها مصروفات على جيوشها هي الأكثر والأضخم على مستوى العالم , وشعوب متعلمة ومثقفة وقادرة على التضحية وإعادة صياغة العلاقات الدولية مع دول العالم قاطبة , كما أن لديها اقتصاد قوي في غالبية الدول العربية خاصة منها التي تمتلك أهم سلعة في العالم وهو النفط , فما الذي ينقص حكومات العالم العربي لكي تقول لأمريكا كلمة لا أسوة بحكومة الفلبين .

ولعل لنا فيما فعلته الدول العربية في حرب رمضان المباركة عام 1393هـ/1973م , حين قاد تحالف الدول العربية مصر – سوريا عسكرياً والسعودية اقتصادياً , وأدى ذلك إلى تعديل المعادلة الدولية تجاه العالم العربي حيث كانت من النتائج المهمة ما يلي :

1) قطع كثير من دول العالم علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل وفرض حصار اقتصادي عالمي على إسرائيل والشركات المتعاملة معها .

2) وضع بريطانيا وهولندا وإسرائيل في زاوية ضيقة للغاية , حتى بمؤسسات هيئة الأمم المتحدة , حيث اتخذت الجمعية العامة قراراً يساوي بين الصهيونية والعنصرية بعيد هذه الحرب .

3) بدت الدول العربية محط أنظار العالم خاصة بعد استخدام الملك فيصل بن عبدالعزيز أل سعود سلعة البترول في الحرب الاقتصادية متوازية مع الحرب العسكرية التي شنتها مصر وسوريا .

على أن نتائج هذه الحرب لا تحصى , ولكنها تبين مدى قدرة العرب على اتخاذ القرار بقوة متى وجدت لديهم العزيمة والإرادة , كما تبين أن العرب قادرين على أن يقولوا كلمة لا لأعدائهم .

ويؤكد إيمانويل تود (( إن اختيار العرب كخصم من قبل الولايات المتحدة هو الحل السهل , إنه ينتج عن العديد من المؤشرات الموضوعية , ومن ضرورة أن تحتفظ أمريكا بما يشبه العمل الإمبريالي … و تساء معاملة العرب لأنهم يعانون ضعفاً عسكرياً, ولأن لديهم البترول , ولأن أسطورة البترول تساعدنا على نسيان الجوهر , أي التبعية الشاملة للولايات المتحدة في ما يتعلق بالتمون بكل أنواع البضائع , و تساء معاملة العرب أيضاً لأنه لا وجود لدولة عربية فاعلة في اللعبة السياسية الداخلية للولايات المتحدة , وأيضاً لأنه لم يعد ممكناً للولايات المتحدة التفكير بطريقة تتسم بالعمومية والمساواة )), ويقول تود (( أما الحرب ضد الإرهاب فقد كانت فرصة لإطلاق الأحكام النهائية على النظام الأنثروبولوجي الأفغاني أو العربي التي تتناقض مع مبدأ المساواة الأولي , ما نشاهده هنا, إذاً , ليس مجموعة من الظروف , بل نتيجة لتراجع العمومية في العالم الأنغلوساكسوني الذي يحرم أمريكا من رؤية عادلة للعلاقات الدولية , ويمنعها من أن تتعامل بلياقة أي بفاعلية من وجهة النظر الإستراتيجية مع العالم الإسلامي )).

في حالة الهيجان للحمار والفيل الأمريكيين (رموز الحزبين الجمهوري والديموقراطي بأمريكا ) والمتعاظم في مرحلة ما قبل السقوط الأمريكي المتوقع – على نسق سقوط الاتحاد السوفييتي – ضد كل ما هو عربي أو إسلامي كان بمقدور العالمين العربي والإسلامي فقط الهدوء واللامبالاة على الأقل , لأن الاستجابات الرعديدة والسريعة من قبل الدول العربية والإسلامية لكل مطالب أمريكا المهتاجة هو أمر فيه الكثير من قصر النظر , ولا يعني سوى استمرار تقديم سلسلة جديدة من المطالب لدول قد أصابها الهلع وسلمت مقدراتها وقدرها وقدر شعوبها لعدوها .

إن الذي لم يقله إيمانويل تود هو أن العالم السكسوني هو العالم البروتستانتي وهم المؤمنون مثل اليهود من بين جنس البشرية بكل ماجاء بالتوراة , لذا فعدو اليهود وإسرائيل هو عدو بالطبيعة لأمريكا وبريطانيا وهولندا وأستراليا , وإن هذه الحمى المحمومة من العداء الأمريكي ضد ما أسماه تود بالعداء (( للنظام الأنثروبولوجي الأفغاني أو العربي )) وهو هنا يدمج العرب بالأفغان بذكاء لدمج العالمين العربي بالإسلامي في ظل حضارة إسلامية واحدة ليس إلا خدمة لليهودية العالمية وفكرة الألفيين حول عداوتهم للعرب ووجوب إبادتهم ونهايات الزمان التي يتوقون إليها بشغف المجانين .

كان بمقدور الدبلوماسية العربية أن تربط ما يمكنها أن تقدمه للولايات المتحدة الأمريكية من أدوار تطلبها منهم أمريكا على الصعيد الأمني والاقتصادي بما يجب على أمريكا أن تقدمه للعرب والمسلمين من احترام متبادل للدين والثقافة والحضارة والتوجهات والخيارات , وما يجب أيضاً بالأساس أن تقدمه أمريكا كدولة عظمى للأمة العربية والإسلامية من حل لقضية فلسطين , إن انهيار الدبلوماسية العربية وتهاويها أمام رسل البيت الأبيض الأمريكي ـ الذي لم يكن أسود الجوهر والمضمون في يوم من الأيام كهذه السنوات الأربع التي حل فيه بوش الصغير – أمثال آرميتاج وزملائه من وكلاء الوزارات الأمريكية ذوو الأصول اليهودية والتوجهات الصهيونية , جعل القيادات العربية تقدم كل ما لا ينبغي تقديمه , وتنازلوا عن كل ما ينبغي ألا يتنازلوا عنه وتخلوا عن كل ما يمكنهم أن يكسبوه دبلوماسياً دفعة واحدة .

لقد كان انهيار النظام العربي وتهاويه في هذه الحقبة في العقد الأخير من القرن الماضي والنصف الأول من العقد الأول للقرن الجديد سريعاً ومريعاً , لقد نسي صناع السياسة العرب وقادة دبلوماسيتهم أن العلاقات الدولية تحكمها المصالح أكثر من المبادئ والأخلاقيات , ولم يستفيدوا من تجارب الأمم , ولربما كانت بعض القضايا التي يعتبرها الغرب ـ كأعداء لهذه الأمة ـ سبباً لوجوب استسلام العرب لمطالبهم كقضية الإرهاب , قوة يمكن أن يستفيد منها صانع الدبلوماسية للمقايضة مع هذا العدو , فبدلاً من ثوب الهلع والخوف الذي لبسته الدبلوماسية العربية وتقمص دور المتهم والمجرم بقضية الإرهاب الدولي مثلاً , كان يمكن للدبلوماسية العربية الإصرار على التمسك بدور الضحية , ومن ثم ربط أي دور مناط بالدول العربية بالمشاركة بهذه الحرب المزعومة على الإرهاب ؛ بالمكاسب السياسية والدبلوماسية والاقتصادية التي يمكن للدول العربية أن تجنيها مقابل تعاون يطلب منها أن تبديه وتقدمه إلى جانب العالم الغربي ( أوروبا وأمريكا وإسرائيل ) , ومن المعلوم أن الغرب أو أمريكا تحديداً ليست بالتي تقبل النقاش الموضوعي بقدر ما تريد تجيير القوة العسكرية التي تمتلكها لسوق ما تعتقد أنها عدوها إلى الإذعان دون مناقشة على مبدأ بوش الصغير (( من ليس معنا فهو ضدنا )) , ولكن يمكن للدول العربية التمسك بما يشبه (الإضراب عن التعاون )حتى تحقيق المطالب , وذلك من خلال موقف موحد تفرضه الدول العربية الكبرى على الدول الصغرى الناشزة عن قرار الأغلبية .

ومما لا شك فيه أن النظام العربي يحتاج إلى الإصلاح من ألفه إلى يائه , سواء بتقليل قيمة الصوت للدولة داخل نظام التصويت بجامعة الدول العربية حسب عدد السكان , فليس من المقبول أن يكون صوت قطر والكويت مثلاً كصوت مصر والسعودية بما يمثلانه من ثقل على الساحتين العربية والدولية , أو بتشكيل مجلس أصغر من الدول العربية الأساسية كمصر والسعودية والجزائر والسودان وسـوريا والعراق ( في حالة وجود حكومة وطنية لا ترتبط بالاحتلال ), وهو ما يشبه وضع دول مجلس الأمن بهيئة الأمم المتحدة , أو بالتوجه للديموقراطية وصناديق الاقتراع لأن حكومات منتخبة ومسؤولة أمام مجلس نيابي حقيقي هي الحصن الحقيقي أمام الضغوط الدولية .

وعلى غرار سؤال كيسنجر الشهير : هل تحتاج أمريكا لسياسة خارجية ؟ يمكننا أن نسأل سؤالاً آخر , هل يوجد لدى الدول العربية سياسة خارجية ؟

لعل العديد من الدول العربية يعشش فيها وزراء خارجية كل مؤهلاتهم أنهم ينتمون إلى خط الحزب أو النظام أو ربما التبعية المطلقة لجهات أجنبية تدعم وجوده , ولعل كل ما يفهمه بعضهم التصريح بجرأة لا تخلو من قلة الفهم والحياء معاً , حين يقول إن كل ما يفعله هو أنه يقوم بسياسته علناً أمام الجميع وأمام عدسات التلفزة في حين يقوم غيره بنفس الأسلوب سراً ومن وراء الكواليس .

لكأن الإضافة العبقرية التي أضافها هذا الوزير للدبلوماسية العربية هي أنه تجرأ على إعلان خزيه وعاره وتنفيذه لأجندة أعداء الأمة والذي يخجل بعض آخر من الوزراء ـ ومعهم الحق كل الحق في إبقاء ما يفعلونه سراً لأنهم يعلمون حدود المسموح لهم أمام الشعب العربي ويعلمون أيضاً غير المقبول ـ من فعل مثل ذلك .

لقد مرت تجربة رائعة على وزارة الخارجية المصرية في فترة واحدة حين قادها الدكتور عمرو موسى , ثم خفت صوتها وسجيت مناوراتها في توابيت الفراعنة المحنطة , أسوة بكثير من وزارات الخارجية العربية .

فمتى ستبحث الحكومات العربية عن المتخصصين بالسياسة مهما كانوا مختلفين بالرؤى عن قصر الرئاسة أو قصر الحكم لأنه في النهاية فإن وزير الخارجية ليس إلا سياسي يحول توجهات زعيم أو قائد الدولة إلى مناورات سياسية وبرامج تربك العدو وتقلل من ضغوطه وتفشل من خططه الهجومية على دولته , وتخدم تلك التوجهات التي تريدها الزعامة , كم من قائد سياسي ناجح اعتمد على وزراء لا يمثلون خطه السياسي ولكنه كان مدركاً أنهم سيعملون على إنجاح قيادته .

كتبه/ د. صالح السعدون

695

الكاتب د.صالح السعدون

د.صالح السعدون

د.صالح السعدون مؤرخ وشاعر وأكاديمي / لدينا مدرسة للتحليل السياسي غير مألوفة..

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة