المؤامرة … بين الحقيقة والتكذيب 3/4
الجزء الثالث: انقسام اليهود إلى ثلاث كتل كبرى متناقضة :
قال الله تعالى بالقرآن الكريم يصف اليهود (( تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى )) في القرن التاسع عشر بدأ اليهود ينقسمون إلى ثلاث كتل مختلفة كل يرى مسألة سيطرة اليهود على العالم من زاوية خاصة به فقد رأوا أنه قد حان قطاف جهد قارب من ألفي عام من العمل الصامت المتمهل للسيطرة على العالم اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً .
ولعلنا نذهب إلى أن اليهود منذ عام 1848م/ 1265هـ قد انقسموا إلى كتلتين كبيرتين …
د.صالح السعدون
الجزء الثالث: انقسام اليهود إلى ثلاث كتل كبرى متناقضة :
قال الله تعالى بالقرآن الكريم يصف اليهود (( تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى )) في القرن التاسع عشر بدأ اليهود ينقسمون إلى ثلاث كتل مختلفة كل يرى مسألة سيطرة اليهود على العالم من زاوية خاصة به فقد رأوا أنه قد حان قطاف جهد قارب من ألفي عام من العمل الصامت المتمهل للسيطرة على العالم اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً .
ولعلنا نذهب إلى أن اليهود منذ عام 1848م/ 1265هـ قد انقسموا إلى كتلتين كبيرتين ، في بداية الأمر , أما الكتلة الأولى فهم الرأسماليون ( المرابوان ) اليهود والتي يتزعمها روتشيلد ، أما الكتلة الثانية فهي الشيوعيون ( الاشتراكية الدولية ) التي ولدت إثر البيان الشيوعي الذي أذاعه ماركس وأنجلز في عام 1848م/1265هـ ولعل عام 1894م /1312هـ ، كان العام الذي ولدت فيه إرهاصات ولادة كتلة يهودية جديدة ثالثة هي الصهيونية. ولعل عمل الكتلة الأولى يتمحور في السيطرة الاقتصادية في بلدان العالم الغربي ، في حين اتجه عمل الكتلة الثانية نحو أوروبا الشرقية واتخذ طابعـاً سياسيـاً مرتكزاً على النظرية الاقتصادية الشيوعية والسيطرة اليهودية على شرق أوروبا، في حين أرادت الصهيونية أن تنهج منهجاً علمياً وعملياً وبتأييد شعبي في نفس الوقت . يثبت ذلك ما قاله هرتزل في خطاب الافتتاح للمؤتمر الصهيوني الأول حين قال (( .. لأن الحركة الصهيونية ينبغي أن تكون أوسع في مداها إذا ما أريد لها أن تقوم بالفعل . إن الشعب لا يجزى إلا عن جهوده هو ، وإذا لم يكن في استطاعته أن ينهض بنفسه فإنه لن ينال العون .ولكننا نحن الصهيونيين نريد أن نرتفع بالشعب إلى درجة مساعدة نفسه بنفسه، ولن توقظ الآمال الفجة أو غير الناضجة )) .
وترى مارتين جلبرت أنه إثر محاكمة دريفوس تساءل اليهود عن الخطأ في الحياة اليهودية، أو بمعنى آخر كيف يواجه اليهود المعاداة للسامية ، وقد توصلوا في مناقشاتهم أن هناك ثلاثة اتجاهات للخروج من المأزق الأول : اتجاه بين اليهود ينادي بالاندماج في الأمة التي يعيشون فيها ،و الثاني : نادى بالنضال من أجل إيجاد اشتراكية ثورية تعالج الشر في جميع أنحاء العالم وتقضي على معاداة السامية ، الثالث: السعي وراء حياة يهودية في أرض يهودية وحكومة يهودية ، وقد انجذب هرتزل إلى الخيار الأخير .
وهذا ما يؤكد أن هناك ثلاث كتل الرأسماليون ، والثوريون الاشتراكيون ، والصهيونيون ، ويرى تشرشل – فيما بعد – بعيد الحرب العالمية الأولى مثل هذا الطرح ، فيرى (( أن هناك ثلاثة أنواع من اليهود ، الناشطين سياسياً المشاركين في الحياة السياسية للبلد الذي عاشوا فيه, والذين اتجهوا إلى العنف وعقيدة البلشفية الدولية الهدامة ، والذين ساروا وراء حاييم وايزمان على طريق الصهيونية )).
يحتار المؤرخ حين يحلل نصوص مراسلات ووثائق هرتزل في وقت مبكر من الصهيونية, حيث أنه يتكلم كثيراً عما سماه (( مجلس العائلة )) حيث قال في يومياته 12/6/1895م / 1313هـ (( وفي أثناء رحلتي هذه سوف أدعو .. عدداً من كرام اليهود ليأتوا لمقابلتي ، وأحلفهم أن يبقوا الأمر سراً وأخبرهم بالمشروع الذي سأعرضه على مجلس العائلة … )) فهل مجلس العائلة تعني هيئة يهودية عليا ، أم أنها قيادة الرأسماليين اليهود ممثلة بعائلة آل روتشيلد .وهل لهم مجلس رسمي تعرض عليهم اقتراحات اليهود.
إنه من خلال ما كتبه هرتزل يتبين لنا أن هرتزل ليس ذلك اليهودي البسيط الداعي للاندماج أو الذي فكر بالدخول بالمسيحية .
وتبين الوثائق والنصوص المتوفرة بين أيدي دارسي هذه الفترة من تاريخ الحركة الصهيونية ، فكراً صهيونياً أصيلاً ومتعصباً لدى هرتزل ، فقد كتب في ( الدولة اليهودية ) يصف قومه اليهود (( وهكذا سواء رغبنا أم لم نرغب فإننا الآن وسوف نظل جماعة تاريخية ذات خصائص عامة لا يمكن أن تخطئها العين ، أننا شعب واحد .. )) ويقول أيضاً (( فمن كان قابلاً للفناء أو في طريقه إليه أو يجب أن يفنى فلندعه يفنى ، أما القومية المتميزة لليهود فلا يمكن أن تفنى ولا ينبغي لها أن تفنى ، أنه لا يمكن تدميرها ، لأن الأعداء الخارجيين يدعمونها ، إنها لن تدمر لأن ألفي عام من المعاناة الرهيبة تؤكـد ذلك أنه لا ينبـغي تدميرها … قد تبلى فروع كثيرة من اليهود وتسقط أما الجذوع فإنها تبقى ثابتة )) ، لا شك في لغة هرتزل القومية التي تصل قريباً من لغة الأحزاب ذات الطابع العرقي . ولعل ما قاله في كتابه يؤكد أن الصهيونية لم تنبثق فجأة في عقل هرتزل نتيجة لأحداث فرنسا في عام 1894م/1312هـ إبان قضية دريفوس فيقول حول الدولة اليهودية (( تلك هي فكرة الدولة … لقد ظل اليهود يحملون هذا الحلم الملكي خلال الليالي الطويلة من تاريخهم " العام القادم في القدس " إنها عبارتنا القديمة ، المشكلة الآن أن يتحول هذا الحلم إلى واقع حي … )) .لعل هذا هو البرنامج العملي للصهيونية.
الصهيونية قبيل الحرب :-
وضعت الحركة الصهيونية في حساباتها وقوع هذه الحرب، وخططت مؤامرة الحرب العالمية الأولى وطبخت على نار هادئة , وحسبما قال ماكس نورداو في خطابه في المؤتمر الصهيوني السادس الذي عقد في بازل بسويسرا عام 1903م أي أنه ربما قد تم الانتهاء منها قبل وقوع الحرب بحوالي ثلاثة عشر عاماً تقريباً حيث قال نورداو في ذلك المؤتمر : (( دعوني أخبركم الكلمات التالية ، وكأني أصعد بكم درجات السلم درجة درجة … المؤتمر الصهيوني ، مشروع أوغندة البريطانية …. الحرب العالمية المتوقعة … مؤتمر السلام ، حيث يتم بمساعدة بريطانيا قيام دولة يهودية حرة في فلسطين …)) .
كان الكثير من الشخصيات العالمية ينظرون إلى قوة اليهودية العالمية آنذاك ، فنجد مارك سايكس المندوب البريطاني في اتفاقية سايكس بيكو ،وفيتـزموريس المستشار في السفارة البريطانية باستانبول يعتقدون بوجود أسرة يهودية عالمية متماسكة تتحرك بطرق خفية للسيطرة على العالم ، كما كان جون بوتشان ذو الصلة بالمشروعات البريطانية في جنوب أفريقيا ، وسكرتير اللورد ميلنر في جنوب أفريقيا و أحد رجال الحرب في عام 1898م في حرب البوير ، ومدير الخدمات الإعلامية في حكومة لويد جورج قد كتب رواية كلاسيكية " الخطوات التسع والثلاثون " في عام 1915م يقول (( بعيداً وراء كل الحكومات والجيوش هنالك حركة سرية جارية ، دبرها شعب خطر جداً … إن هذا يفسر أشياء كثيرة … وكيف صعدت دولة ما فجأة إلى القمة, وكيف قامت تحالفات وانهارت ، ولماذا اختفى رجال معينون ، ومن أين جاءت مصادر القوة للحرب ,أن الهدف … هو الإيقاع بين روسيا وألمانيا وجعلهما في حالة خصام ، اليهودي وراء كل ذلك, واليهودي يكره روسـيا أكثر من كرهه للجحيم…)) .
إن ذكر هذه الإشارات يلقي الضوء على أن هناك شخصيات عالمية فاعلة في القرار السياسي في بلدانها ، وكانوا وراء كثير من القرارات التي خدمت الجاليات اليهودية ، و يؤمنون بمثل هذه الأفكار ، وسـواء كانوا على صواب أم خـطأ ، فقد كان هـذا الاعتقاد سائداً .
وما من شك أن اليهود كطوائف متفرقة يملكون المال وقوة التنظيم وسعة الانتشار يعملون للمحافظة على مصالحهم ، غير أننا هنا نريد أن نناقش مسألة علم اليهود أو إعدادهم للمسرح الدولي من أجل حرب عالمية تحقق مصالحهم الاقتصادية والسياسية ، إذ أن هناك من الشواهد ما يظهر أن هناك من أعد للحرب أو على الأقل من علم بها مسبقاً .
ومن المعروف أن المصانع الكبرى والمصالح الاقتصادية في أمريكا وأوروبا كانت متركزة إلى درجة كبيرة بيد اليهود كرأسماليين وشركات كبرى ، ومنها شركات الأسلحة ، ولعل المؤرخ البريطاني فيشر ناقش هذه القضية بإيجاز مستبعداَ جزءاً منها ومقراً بالجزء الأخر حين قال : (( أما الفكرة بأن الحرب العظمى أثارها الرأسمـاليون ، فهي هـراء ولغو ، فإنه في كل مكان – ربما ما خلا في بعض دوائر صنع الأسلحة – ارتاع كبار رجال الأعمال أيما ارتياع لفكرة انهيار السلم … ومع ذلك فإنهم لم يكونوا من القوة بحيث يستطيعون أن يوقفوا أدوات الحرب الجبارة الهائلة عن التحرك والسير )) .
ويذكر فيشر كيف أن الحرب قدمت خدمة كبيرة لليهود من أن بريطانيا عملت على كسب رضاهم فقدمت لهم وعد بلفور : (( وبذلك ضمنت إلى جانبها جماعات اليهود القوية العالمية التي تبسط سيطرتها على أسواق المال لا في نيويورك فقط ، بل في نواح عديدة أخرى من أنحاء العالم ، وحملتها على مناصرة قضية الحلفاء )) , ونجد أن عضو البرلمان البريطاني اليساري في حزب العمال في استراليا قد اتهم وحمـَل أصحاب رؤوس الأموال اليهود مسئولية اندلاع الحرب العالمية الأولى .
ومن الحوادث التاريخية التي تشهد بأن هناك تنسيقاً عالياً بين الكتل اليهودية الثلاث (كتلة الرأسمالية , وكتلة الاشتراكية الدولية , وكتلة الصهيونية ) ما ذكره مارتين جبلبرت في كتابه ( تاريخ اسرائيل ) حيث قال : في 7 أكتوبر 1897 م ، وبعد حوالي ستة أسابيع فقط بعد الافتتاح الهام لأول مؤتمر صهيوني في بال عقد اجتماع سري فيVILNA لمنظمة يهودية جديدة هي Bund حزب العمال الاشتراكيين اليهودي والذي كرس نفسه لقدوم الاشتراكية الدولية في روسيا .
وفي عام 1917/1335هـ تمكنت كتلة الاشتراكية الدولية (الجناح اليساري ) من اليهودية العالمية من إسقاط الحكومة الروسية ، كما تمكنت الصهيونية في نفس العام من انتزاع وعد بلفور من بريطانيا .ويأتي اعتراف وايزمان الخطير الذي يثبت أن اليهود كانوا يخططون لوقوع الحرب، لأنها السبيل الوحيد التي يجبرون من خلالها الدول الكبرى لتقديم مساعداتها وإعطاء موافقتها لمشروعاتهم .
في حـين أدركت الاشتراكية الدولية اليهودية إثـر فشل ثورة عام 1905م / 1323هـ ، أنه لا سبيل إلى نجاح الثورة الشيوعية في روسيا وسيطرة اليهود عليها إلا بدخول روسيا للحرب، وإشغال الجيش في جبهة القتال ليتسنى لهم النجاح في خطتهم .
أما كتلة الرأسمالية اليهودية ، فالحرب تعني جني الأرباح بشكل مضاعف وتقديم القروض الربوية ,حتى أن بريطانيا أصبحت في حلول عام 1917م (( مصرف ومستحصل قروض لأسواق المال العالمية ليس لنفسها فحسب, بل بضمانها للأموال التي اقترضتها روسيا وإيطاليا وحتى فرنسا )), من أجل تسديد أثمان الذخائر والمواد الأولية المستوردة , وكما يذكر فيشر إنه في تقدير مبكر بدا أن بريطانيا ستضطر إلى فتح اعتماد مالي قدره ألف مليون جنيه ,إلا أن المبالغ التي أنفقتها بريطانيا على الحرب بلغت عشرة أضعاف هذا المبلغ ، وقد كانت أسواق المال في شيكاغو ونيويورك هي المستفيدة من هذه القروض .
أما الصهيونية ، فكل يخطب ودها لتقديم فلسطين وطناً قومياً لهم ، يقول وايزمان في مذكراته : (( وفي الجملة أعددنا في الفترة بين سنتي 1907م ، 1914م ، العدة اللازمة لمواجهة الحرب ,وما عسى إن تعود علينا من وعود وعهود ، ومن فرصة سانحة لبناء فلسطين من جديد يهودية )) .وقد سبق إن تحدث ماكس نورداو كثيراً عن مؤتمر الصلح الذي يعقب حرباً عالمية ,يتمكن الصهيونيون من عرض المسألة اليهودية على هذا المؤتمر للوصول إلى الحل الذي ينشدونه وذلك قبل نشوب الحرب العالمية الأولى وقبل أن تتضح نهايتها وقبل مؤتمر الصلح .
دخول الدولة العثمانية الحرب :
في ظروف الحرب العالمية الأولى ، يصعب الحديث عن أية حكومة من الحكومات المتحاربة في المعسكرين كوحدة ذات رأي متوافق في كل قضايا الحرب، بل كانت كل حكومة تنقسم إلى فريقين أو أكثر.فالحكومة الألمانية انقسمت بين فريقين السياسيين والعسكريين،وكان التفوق للفريق الأخير الذي اضطر الإمبراطور لمناصرته خلال فترة الحرب .
كما كانت حكومة بريطانيا بزعامة اسكويث قد انقسمت إلى فريقين ,الأول معتدل بزعامة إسكويث رئيس الوزراء ووزير الخارجية لورد ادوارد جراي ، ووزير الحربية الجديد اللورد كتشنر ، وكان هذا الفريق من الاعتدال بحيث يلمس أن أهدافه في قراراته المصلحة العامة للإمبراطورية البريطانية ، أما الفريق الثاني فتزعمه تشرشل وزير البحرية ولويد جورج وزير المالية وهربرت صموئيل وزير البريد ، حيث كانت قراراتهم متشددة تنبع من رؤى أو أهداف شخصية .إلى جانب انقسام آخر في وجهات نظر الحكومة ، فقد كان مكتب القاهرة التابع لوزارة الخارجية وللورد كتشنر الذي كان ما يزال المعتمد السامي بمصر حتى تنتهي الحرب ليعود إلى مركزه ، الذي عين به ماكماهون مؤقتاً للحاجة الملحة لكتشنر في إدارة الحرب كوزير للحربية ، والجانب الآخر هو حكومة الهند البريطانية التابع لوزارة المستعمرات ، ورغم أن الجبهتين تعملان لمصلحة الإمبراطورية ,غير أن وجهات نظرهما ظلت مختلفة لمعالجة قضايا المناطق الناطقة بالعربية من بلاد الرافدين وسوريا والجزيرة العربيـة ، لذا يصعب الحديث عن " الحكومة البريطانية " كسياسة موحدة لأن كل جناح من هذه الأجنحة يملك رأياً أو قراراً مختلفاً .
ويصدق هذا الوصف على وضـع الدولة العثمـانية ، فقد كانت ممزقة بين ثلاثة أجنحة ، الجناح الأول ويضم أنور باشا وزير الحربية وطلعت وزير الداخلية وخليل بك رئيس البرلمان ثم انضم إليهم جمال باشا وزير البحرية ، أما الجناح الثاني فكان يضم وزراء بعض الوزارات الأخرى ويضم وزير المالية جاويد بك وهو يهودي ، ويرى مولان زاده رفعت انه يؤيد فريق دخول الحرب إلى جانب ألمانيا ولكن بطريق خفي ، ووزير التجارة والزراعة سليمان البستاني وثلاثة من هيئة أركان الحرب ، أما الجناح الثالث فيضم الصدر الأعظم إلى جانب وزير الأشغال العامة جوروك صولي محمود باشا ووزير البرق والبريد أوسكان افندي ويناصرهم السلطان محمد الخامس وولي عهده الأمير يوسف عز الدين . هكذا كانت الحكومات تبدو خلال الحرب ، لذا فكثير من القرارات كانت تتخذ إما بشكل فردي أو لتفوق الجناح الذي يقترح القرار . كان التنافس الألماني من جهة ، والحلفاء من جهة أخرى لكسب الدولة العثمانية إما إلى جانبها أو على الأقل أن تبقى على الحياد ، فكيف اتجهت الدولة العثمانية لدخول الحرب؟ .
حكومات الحلفاء أثناء الحرب :
غيرت الأحداث العظيمة التي لم تشهد البشرية أحداثاً متسارعة مثلها من قبل ، كثيراً من الحقائق على الأرض ، وأصبحت أحلام ألمانيا بانتصار سريع على الجبهة الغربية واحتلال باريس غير محققة ، وتبخرت أوهام قياصرة الروس في كسر الجيش النمساوي ومن ثم حصار ألمانيا ، أمام الانتصارات الألمانية الباهرة على الجبهة الشرقية لأوروبا .
وعلى الصعيد السياسي نجحت ألمانيا في جر الدولة العثمانية إلى دخول الحرب ضد الحلفاء إلى جانبها ، وفي خنق روسيا بحرمانها من تصدير الحبوب إلى الحلفاء ، كما أجهزت على قدرتها العسكرية بحرمانها من استيراد الذخائر والمدافع والبنادق ، وذلك بإغلاق المضائق .
حاولت الدولة العثمانية من خلال جيشها الثالث غزو الأراضي الروسية ففشلت فشلاً ذريعاً ، وأبيد هذا الجيش ، بسبب البرد والتيفوس وسوء القيادة للمعركة ، كما فشلت محاولة الجيش العثماني الرابع غزو الأراضي المصرية وقناة السويس الخاضعة للحماية البريطانية .
ولم تكن بريطانيا بأعظم نجاحاً من روسيا وتركيا، فقد فشل هجومها على بغداد فشلاً ذريعاً وكلفتها هذه المحاولة أمام جيش الدولة العثمانية ذو القيادة الألمانية أكثر من 23.000 قتيل ، كما فشلت حملتها الكبرى التي قدمت فيها نصف مليون جندي بحرب برية وبحرية لغزو غالبيولي بهدف احتلال المضائق واستانبول وفتحها أمام استيراد روسيا للأسلحة وفقدت أكثر من 250.000 جندي في هذه الحملة ، إلى جانب أنه كان من نتائجها أن سقطت وزارة اسكويث الأولى .
ولم تستطع ألمانيا إقناع الثلاثي المتحكم بالدولة العثمانية من إيجاد أرضية تزيد من تماسك ووحدة الجبهة الداخلية لهذه الدولة، مما يمكنها من التصدي للمخططات البريطانية، كما أخفقت ألمانيا في تلمس ضعف هذه الدولة وأسباب الفشل في السياسة الداخلية ومعالجته في حينه، مما أوقع الحرج في موقف الألمان ومنعت الحكومة الألمانية صحفها من كتابة أية أخبار عن ما عرف بالثورة العربية.كما فشلت حكومة الثلاثي في الدولة العثمانية في تلمس حجم المشكلة العربية ووضع حلول ناجحة تعالجها بشكل جذري، بل استخدام جمال باشا العنف والمشانق لرجالات العرب ووصل سوء التقدير لدى جمال باشا أن أبلغ السفيرين الألماني والنمساوي بأنه سيقضي على الثورة العربية خلال أيام وسيقبض على الحسين ويشنقه على أحد أبواب دمشق .
أمام هذا الوضع المعقد في الساحة الدولية خلال الحرب العالمية الأولى رأى بعض أعضاء مجلس الوزراء البريطاني أن انتصاراً بريطانياً في الشرق قد يعطي شيئاً من الأمل رغم إخفاق الحملتين على بغداد وغاليبولي .وكان الجيش البريطاني في مصر ينتظر نضوج الجهد الدبلوماسي الذي قادة المكتب العربي بالقاهرة بقيادة ماكماهون الذي تمكن في نهاية الأمر من إقناع الشريف في إعلان الثورة العربية في 10 يونيو 1916م /1334هـ ، فكان نصراً دبلوماسياً للحلفاء وانتكاسة حقيقية لدول المحور.
جهود الحركة الصهيونية في هذه المرحلة :
كانت فكرة كتشنر في بناء عالم ناطق بالعربية يمتد من عدن وجنوب السودان متجهاً شمالاً حتى الإسكندرية والاسكندرونة تحت العلم البريطاني، وأصبح معاونوه أمثال ستورز ووينجت وكلايتون في مكان الصدارة.
وربما كان الخلاف الأساسي بين اسكويث وجراي من جهة وكتشنر من جهة أخرى يكمن في الشرق الأوسط ودور فرنسا وروسيا فيه ، ففي الوقت الذي يجد كل من اسكويث وجراي شيئاً من التفهم لمطالبهما ، فإن كتشنر كان يحذر ومن خلال مذكرة رسمية قدمها لمجلس الوزراء في 16 مارس 1915م /1333هـ من أن (( العداوات والضغائن القديمة التي سكنت بسبب الأزمة الراهنة في أوروبا قد تنبعث بعد الحرب )) وأن بريطانيا قد تجد نفسها في حالة عداء مع روسيا أو فرنسا أو كلتيهما .
وقد كان اسكويث وجراي لهما توجهـات متقاربة ، إذ كتب اسكويث بمذكراته (( أعتقد في هذه اللحظة ، أنني وجراي الوحيدان اللذان تساورهما الشكوك والريب في مثل هذه التسوية ، فكلانا نعتقد أن أفضل شيء للمصلحة الحقيقية لمستقبلنا الخاص هو أن نتمكن عند انتهاء الحرب من القول … أننا لم نأخذ شـيئاً ولم نكسب شيئاً ولا أقول هذا من وجهة نظر أخلاقية وعاطفية فحسب … بل من منطق اعتبارات مادية محضة، فالاستيلاء، على بلاد الرافدين مثلاً، مع اسكندرونه، أو من دونها … يعني إنفاق الملايين في الري والتنمية بغير مردود فوري أو مبكر، والاحتفاظ بجيش كبير من البيض والملونين في بلد غير مألوف, ومعالجة مختلف المسائل الإدارية المعقدة، هذه كلها أسوأ من كل ما تعرضنا له في الهند ))( 1)وفي أبريل ومايو 1915م / 1333هـ حاول سايكس أن يقترح – في بواكير اهتمام سايكس بالصهيونية – أن تقدم الحكومة البريطانية عرضاً على الصهاينة تأسيس شركة لشراء الأراضي في فلسطين ، والذي هو في الأصل مطلب صهيوني فجاء رد جراي بعدم الموافقة.
كان أول جهد حقيقي للصهيونية لجس نبض الحكومة البريطانية في أثناء الحرب العالمية الأولى حيال مشروعها في فلسطين ، في الشهر التالي لبداية الحرب ، فقد قدم هربرت صموئيل ( وهو يهودي الأصل ، صهيوني التوجه ، ووزير الداخلية فيما بعد ) أولى مذكراته الثلاث في 9 نوفمبر 1914م /1332هـ حين كان مدير البريد العام بوزارة إسكويث الأولى كما قدم مذكرته الثانية في ديسمبر من نفس العام والثالثة في يناير 1915م / 1333هـ ,طرح فكرته أولاً لوزير الخارجية جراي ثم قدمها لإسكويث والتي تم توزيعها في يناير 1915م على مجلس الوزراء من خلال مذكرته مقترحاً أن تصبح فلسطين تحت الحماية البريطانية من وجهة نظر إستراتيجية وقال (( أن مجرى الأحداث يقدم إمكان حصول تبدل بنتيجة الحرب في وضع فلسطين .ولقد سبق أن دب النشاط بين الإثني عشر مليون يهودي … في مختلف بلدان العالم … وانتشر شعور عام أن ثمة أملاً أخيراً بتحقيق بعض التقدم بصورة أو بأخرى باتجاه تحقيق الأماني التي تشبث بها اليهود بإصرار … على مدى ثمانية عشر قرناً لجهة عودتهم إلى الأرض التي شدتهم إليها روابط تكاد تكون على قدم التاريخ نفسه، إلا أنه يسود الاعتقاد بأن الوقت لم يحن بعد لإقامة دولة يهودية مستقلة اسـتقلالاً ذاتياً)) وبـين أن السبب هو أنهم لا يزالون يشكلون سدس سكان البلاد ويصعب عليهم حكم 400-500 ألف مسلم، ثم قال (( أنني لواثق أن الحل الأنجع لمشكلة فلسطين والذي سيلقي أقصى الترحاب من زعماء الحركة الصهيونية ومؤيديها في مختلف أنحاء العالم، هو ضم هذه البلاد إلى الإمبراطورية البريطانية)) وتكلم بشيء من التفصيل حول شراء الأراضي والهجرة اليهودية إلى فلسطين .
وربط إسكويث بين مذكرة صموئيل اليهودي ورواية دزرائيلي – رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ذو الأصول اليهودية .. والتي يدعو في روايته ( تانكرد ) اليهود إلى العودة إلى فلسطين وقد علق في مذكراته (( تلقيت للتو من هربرت صموئيل بعنوان ( مستقبل فلسطين ) … وهو يظن أننا نستطيع … إسكان ثلاثة أو أربعة ملايين من اليهود الأوروبيين في ذلك البلد، … وهذه المذكرة…تشبه إلى حد كبير طبعة جديدة من (( تانكرد )) أخرجت للحياة من جديد ,وأعترف بنفوري من هذه المقترحات التي تضم مسئوليات إضافية إلى مسئولياتنا ..)) .
كما أن الجنرال ستورزكتب في وقت متزامن في نهاية عام 1914م / 1332هـ لسكرتير كتشنر قائلاً (( فيما يخص فلسطين ، أفترض أنه مع عدم رغبتنا … في أن نأخذ على عاتقنا أعباء مسئوليات جديدة … لكننا لا نستطيع أن نركن إلى دوام أي وفاق مهما كان ودياً … إن الأفضل لنا هو وجود دولة حاجزة ولكن هل نستطيع إيجادها ؟ لست أرى عناصر من أهل البلاد يمكن أن تنشئ منها مملكة فلسطينية إسلامية أن الدولة اليهودية هي نظرياً فكرة جذابة ، ولكن اليهود مع أنهم يشكلون أغلبية في القدس نفسها ، هم أقلية ضئيلة في فلسطين … )).
بيد أن كتشنر ألقى بثقل مكانته في مجلس الوزراء ضد اقتراح هربرت صموئيل حين قال كلمته التي أسقطت المشروع بأن فلسطين ضئيلة القيمة من النواحي الإستراتيجية فضلاً عن أنها لا تمتلك ميناء واحداً لائقاً .
ويرى آلان تايلور أن المحاولة الصهيونية الأولى بعد بداية الحرب العالمية الأولى كان نصيبها الفشل نظراً لمعارضة إسكويث رئيس الوزراء الذي كان قد التزم بسياسة استبدال الأتراك بالعرب باعتبارهم أصدقاء بريطانيا في الشرق الأدنى .وإلى جانب كتشنر وإسكويث كان جراي في الحقيقة يعارض فكرة صموئيل ، ووضحه في مجلس اللوردات حين ناقش وعد بلفور فيما بعد عام 1923م/ 1341هـ منتقداً هذا التصريح مستغرباً كيف يتم التعهد بالوطن القومي اليهودي دون الإضرار بحقوق العرب المدنية والدينية .
وهكذا فقد فشلت فكرة صموئيل الصهيونية وسقطت بمجلس الوزراء بسبب جناح الثلاثي إسكويث – كتشنر – جراي ، وعرف مؤيدو الصهيونية أنه من الصعب إقناع الوزارة البريطانية طالما أن هؤلاء يسيطرون على أهم المواقع فيها .
4/10/1427 هـ
الكاتب د.صالح السعدون