العراق بين ثلاثة استراتيجيات1/4
رؤية تاريخية جديدة :
العراق بين ثلاثة استراتيجيات
جزيرة العرب , إيران , الدردنيل
د.صالح السعدون
الإهــــــــــــــــــداء :
أهدي هذه الدراسة إلى قائد إستراتيجية جزيرة العرب في هذه الحقبة .. ” حقبة الرياض ” ..خادم الحرمين الشريفين الملك العادل /
عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله وسدد بالحق خطـــاه
المؤلف
د. صالح السعدون- سكاكا الجوف
المقــدمــــة :
قد لا يعجب البعض التحدث عن النظريات التاريخية , ويفضلون كلمة نظرة أو رؤية , وأياً كانت الرؤى حيال هذا الأمر فإن موضوع هذا الكتاب هو تأطير تاريخي جديد , وقراءة تاريخية جديدة لتاريخ العراق , فالعراق كما رآه مؤلف هذه الرؤية التاريخية ليس مركز للحضارات القديمة فحسب ؛ وإنما مركز لتطاحن الحضارات وصراع الإستراتيجيات الثلاثة : إستراتيجية جزيرة العرب التي ترى أحقيتها بالعراق وتبعية العراق لها كامتداد طبيعي لها و ” بستانها وسوادها ” , وإستراتيجية إيران التي تنظر للعراق باعتباره “فردوسها المفقود ” , وإستراتيجية الدردنيل التي تنظر إلى أن الأخطار التي تهدد أوروبا من الشرق دائما تأتي إليها من قبل ” البوابة العراقية ” إلى جانب طمع هذه الإستراتيجية في ثراء العراق اقتصادياً فالطرق التجارية قديماً والبترول حديثاً كان دائماً ما يغري الدردنيل بالعراق .
وقد كنت كتبت هذا كمقال صغير في موقع ” المأوى ” , وقد شجعني العديد من الأصدقاء لتأطيره في بحث تاريخي علمي وموضوعي , وشجعني أن أقدمه كبحث علمي تاريخي , يعطي دراسة متعمقة للصراع الحضاري الذي يفرضه علينا مفكرو تلك الإستراتيجيات ؛ فالصراع بيننا وبين تلك الإستراتيجيتين سرمدي منذ آلاف السنين وسيظل سرمدي ؛ لا لأن إستراتيجية الجزيرة العربية وممثلوها بالعراق وبلاد الشام (سوريا) يريدون مثل هذا الصراع الحضاري ؛ بل هم يكافحون وينافحون مثل هذا الاعتداء ؛ ولكن كل ذلك مفروض عليهم .
وقد قسمت هذه الدراسة إلى ثلاثة فصول رئيسية : حول التطاحن الحضاري والصراع الإستراتيجي بين الجغرافيات الثلاثة (جزيرة العرب , إيران , الدردنيل ) على العراق , حيث خصص الفصل الأول عن هذا الصراع بين الإستراتيجيات الثلاثة في العصور القديمة وحتى أوائل العصور الوسطى , أما الفصل الثاني فقد تحدثت الدراسة عن الصراع الإستراتيجي حول العراق في العصور الإسلامية , أما الفصل الثالث فقد تحدثت الدراسة عن ذلك الصراع في العصور الحديثة .
وقد اطلعت على الكثير من الدراسات حول تاريخ العراق , ولم يسبق أن درس مثل هذا الموضوع بأية دراسة سابقة على حد علمي , فهي الدراسة الأولى التي وضعت هذا التأطير التاريخي بهذا الشكل لتاريخ العراق , مما يجعلني أكون فخوراً – وبكثير من التواضع -أن أقدمه كنظرة أو رؤية أو نظرية خاصة بي .
وفي حقيقة الأمر فإني أتقدم بالشكر الجزيل لبعض الأصدقاء الذين قدموا لي تشجيعاً خاصاً لتحويل هذه النظرة من مجرد مقال ؛ إلى دراسة تاريخية موضوعية , ولكل من ساهموا بنشره وأخص بالشكر صديقي العزيز الأخ ناصر البراق الذي أعطى اهتمامه لهذه الرؤية وساهم كثيراً في دعمها لترى النور .
د. صالح السعدون
مدخل إلى الموضوع :
يتصارع على العراق ثلاث إستراتيجيات عبر التاريخ, ذلك أن العراق في العصور القديمة والوسطى ؛كان في موقع إستراتيجي هام بين الشرق والغرب , وقد حباه الله ميزات جعله دائماً مغرياً لثلاث جغرافيات تتصارع عليه من أجل مصالحها , أما الجغرافية الأولى التي تتلهف عبر التاريخ للاستحواذ على العراق فهي جغرافية إيران أو ” الإستراتيجية الإيرانية ” والتي وصل بها الأمر إلى نقل عاصمتها من سوسة في الجبال على الحدود الإيرانية مع العراق إلى عاصمتها إكتسيفون (المدائن ) في خاصرة العراق شمالي بغداد حالياً , وحيث أن معظم الأراضي الإيرانية في الوسط والجنوب عبارة عن صحراء قاحلة ؛ فقد اعتبرت قيادات الإستراتيجية الإيرانية عبر العصور أن العراق من أهم البلدان التي لا يمكن لإيران الاستغناء عنها.
أما الجغرافية الثانية فهي جغرافية الدردنيل أو ” إستراتيجية الدردنيل ” وهو أفضل تسمية نطلقها على الإستراتيجية الأوروبية خاصة أن شعوب مثل شعوب اليونان وبيزنطة والأتراك كلها قادت الإستراتيجية الأوروبية من ضفاف الدردنيل , وهي يمكن أن تتغير بتغير العصور فهي قد بدأت بليديا في آسيا الوسطى ثم باليونان في عهد الإسكندر المقدوني ثم ببيزنطة وعاصمتها القسطنطينية والتي مثلت جغرافية وإستراتيجية الدردنيل بحق , ثم أصبحت تركية عثمانية في العصور الوسطى و أوائل العصور الحديثة ؛ حيث تغير اسم عاصمتها إلى إستانبول , وهي أوروبية أطلسية تقودها بريطانيا تارة وأمريكا تارة ضد العراق مع بداية الحرب العالمية الأولى مع مطلع القرن العشرين الميلادي , وقادتها أمريكا ضد العراق مع نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين ؛ على أن الدردنيل اخترناه هنا كناية عن إستراتيجية أوروبا أو القوى الأوروبية الكبرى سواء مثلتها قوة يونانية وثنية أو بيزنطية مسيحية أرثوذكسية أو قوة إسلامية سنية تركية أو قوى مسيحية بروتستانتية كبريطانيا وأمريكا , ورغم أن تركيا الجمهورية ليست أوروبية حالياً من حيث رفض الأوروبيين لانضمامها لمنظمة الإتحاد الأوروبي ؛ فإنها تنافح منذ قرن كي تقنع العالم أنها أوروبية من حيث الموقع والنظام وأسلوب الحياة الاجتماعية , كما أنها تكافح عن مصالحها بالعراق من جهة سواء فيما يتعلق بالأكراد ورغبتهم في تشكيل دولة لهم شمال العراق أو حقوق التركمان في كركوك , كما أنها تنافح ضد جغرافية إيران ودعم إيران للشيعة على حساب أهل السنة استكمالاً لدورها في العصور الوسطى وإن كان ذلك يتخذ شكلاً مظهرياً فقط , كما أنها تحت مظلة حلف الأطلسي , بحيث تجعل الدردنيل لا يزال يمثل إطلالة ومصالح أوروبا على العراق , ومعروف أن القوات الأمريكية انطلقت من تركيا لغزو العراق عام 2003م كما انطلقت من مواقع أخرى , ولذا فرغم أن القيادة تتغير من حيث الدين أو المذهب أو القومية فإن الدردنيل يواصل أطماعه بالعراق منذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا .
أما الجغرافية الثالثة وهي الأقوى على الإطلاق فهي جغرافية الجزيرة العربية أو ” إستراتيجية جزيرة العرب ” , والتي سيطرت على العراق في التاريخ القديم للشرق قرابة ألفي عام بداية من 2400ق.م.من خلال شعوبها التي هاجرت وسيطرت على العراق وحتى 555ق.م. حين نافستها الإستراتيجية الإيرانية بقوة وعنف ؛وظل العراق بعيداً عن سيطرتها حتى تمكنت الجزيرة العربية في حقبة المدينة المنورة في ظل قيادة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كعاصمة لإستراتيجية الجزيرة العربية من فرض مصالح هذه الجغرافيا على العراق لقرون عديدة من جديد , وقد تعددت منطلقات جغرافية وإستراتيجية الجزيرة العربية في وثباتها لحماية مصالحها بالعراق من المدينة المنورة في عهد الخلفاء الراشدين , إلى الدرعية في مطلع العصور الحديثة , وترى الدراسة أن الوثبة المعاصرة من الرياض نحو العراق لتفرض مصالح جغرافية وإستراتيجية الجزيرة العربية خلال العقد القادم على الأكثر .
أهمية العراق للإستراتيجيات ( الجغرافيات) الثلاث :
تقع العراق كالجزيرة العربية بين الشرق والغرب , ففي شمال العراق يمكن أن ينتهي طريق الحرير التجاري من الصين نحو أوروبا بحيث تشكل العراق – قديماً – آخر مدىً للشرق كما تشكل الشام أول بدايات الغرب ؛ ففي وقت متأخر من تاريخ الشرق القديم ؛ كان العراق قد خضع للإمبراطورية الفارسية في فترات من الزمن تعتبر قصيرة نسبياً , بينما كانت روما وبيزنطة متمسكة بخضوع بلاد الشام لها وكذلك العراق لفترات أقصر من خضوعه للإستراتيجية الإيرانية (بالنسبة للعراق ) ومنذ عهد الإسكندر المقدوني.
ومن ناحية أخرى وفي جنوب العراق حيث مصب نهري دجلة والفرات (شط العرب ) ينتهي طريق تجارة الشرق البحري الطويل , والذي يبدأ من الصين نحو الغرب مروراً بالهند والخليج بحيث تكمل الملاحة النهرية هذا الطريق التجاري وصولاً لحلب وأنطاكية على البحر المتوسط نحو الغرب .
وإلى جانب أهمية العراق كنهاية للطرق التجارية بين الشرق والغرب , تأتي خصب أرض العراق والأنهار التي تروي أرضه بحيث وفرة الماء والأرض الخصبة المتجددة باستمرار من طمي الفيضانات ؛ بحيث جعلت من إمكانية قيام حضارة وغنى وافر بالعراق في أي عصر من العصور أمر ممكناً, ولعل الأهمية الاقتصادية في العصور القديمة هذه قد أضيف إليها في العصور الوسطى بعد ديني مذهبي كمدن كربلاء والنجف عملت الإستراتيجية الإيرانية على تضخيمه لأهداف إستراتيجيتها بعيدة المدى فمن تقديس المراقد وزيارتها إلى ما سمي بالحج إليها . كما أضيف عنصر البترول في تاريخنا المعاصر كسلعة اقتصادية هامة جعلت من الصراع على العراق بعداً آخر بالنسبة لإستراتيجيتي إيران والدردنيل في تاريخنا المعاصر – خلال هذا العقد – , وهي نفس البعد الاقتصادي الذي ظل خلال عصور التاريخ يحرك إستراتيجية الجزيرة العربية .
الفصل الأول :
صراع الإستراتيجيات الثلاثة في العصور
القديمة على العراق
صراع الإستراتيجيات الثلاثة في العصور القديمة :
حين نتكلم عن الجغرافية فإننا نتحدث عن الأرض ومصالح تلك الأرض بالعراق نتيجة لفقر تلك الأرض للمكتسبات التي تمتلكها أرض العراق , ولكننا نعني بالإستراتيجية : أنها مصالح وسياسات الجنس البشري في تلك الأرض تجاه العراق , فمنذ فجر تاريخ العراق بدأ الصراع على هذه المنطقة من العالم من قبل الجغرافيات الثلاث , فقد اختلف المؤرخون في عصر حضارة العبيد حول أي الشعوب التي أدخلت معدن النحاس للعراق ؛ حيث أن هذا المعدن لم يكن متوفراً في بلاد النهرين بسهولة , واضطر المؤرخون إلى وضع فرضيات أن من أدخل استخدام النحاس إلى بلاد العراق لأول مرة قد وفدوا به عليها من واحدة من ثلاثة مناطق خارجية يتوافر النحاس فيها , وهي ” عدن وإيران والأناضول ” , مما يؤكد توجه هذه الرؤية التي نحن بصددها حول العراق , ولعل أنصار الأصل الإيراني للنحاس في العراق , افترضوا خروج هجرات من جنوب غرب إيران إلى العراق في أوائل الألف الرابع ق.م. أو قبلها بقليل مستدلين على ذلك أن الهضبة الإيرانية قد تعرضت لجفاف وتصحر قبل أكثر من أربعة ألاف عام (1) .
ويرى ديلابورت أنه ربما وفد السومريون من الجبال الشرقية أي من إيران بينما جاء الأكاديون الساميون من سوريا , ولكنهم فيما يبدو أنهم حتى نسوا من أين جاؤوا واعتقدوا أنهم نشئوا في وادي الفرات أصلاً (2) .
ولعله من الصعب اعتماد أن أصل النحاس قد جاء إلى العراق من إيران كدليل على أن الشعب الأول الذي استوطن العراق جاء من الهضبة الإيرانية بدون نقاش , لأنه لم يستطع الباحثون حتى الآن إثبات ذلك , كما أن تلك الفترة التي تصحرت بها مناطق جنوب غرب إيران هي نفس الفترة تماماً التي تصحرت بها جزيرة العرب , وكما أن الهجرات الإيرانية ممكنة ؛ فإن الهجرات السامية من جزيرة العرب ممكنة أيضاً ولنفس الأسباب , ولكن المهم في هذا الرأي هو أنه منذ التاريخ القديم للعراق وهو يخضع لمصالح الجغرافيات الثلاثة جزيرة العرب , وإيران , والدردنيل ( الأناضول أو أوروبا ) .
إستراتيجية جزيرة العرب تسبق غيرها بالعراق :
( الحقبة الأكادية ):
ورغم أن التاريخ لا يزال على غير بينة أكيدة بأصول السومريين وموطنهم الأصلي الذي وفدوا منه إلى العراق سواء بالعودة إلى لغتهم التي تتميز عن غيرها بالجذر اللفظي , أو للجنس والطراز الجسماني من حيث أشكال الجمجمة أو الأنف بحيث كشفت الحفريات عن أشكال جماجم متشابهة مع ما أنتجه نحاتوهم , إلى غير ذلك , فإن الكثير من الآراء تجعل الجزم بأصولهم أمراً مستبعداً , سواء الرأي الذي يرى أنهم من جبال أرمينية وإيران , أو من الغرب الإيراني أو من منطقة بين الهند وأفغانستان (3) .
إلا أنه من المؤكد أن أول إستراتيجية وجغرافية ظفرت بالعراق بعد السومريون هي إستراتيجية الجزيرة العربية ؛ بحيث أن الجفاف الذي ساد في مناخ جزيرة العرب في الألف الرابع قبل الميلاد جعل من الصعب على ذلك الخزان البشري الكبير أن يستوعب سكانه بقبائله وشعوبه وهو في أفقر عصوره , ويرى د.محمود عبدالحميد أحمد أن النظرية التي لاقت قبولاً كبيراً من كثير من العلماء أمثال سبرنجر (Sprenger) وموسكاتي (Moscati) .وماير ( Myres) وفيلبي ( Philby) وغيرهم (( تفترض أن شبه الجزيرة العربية هي مهد الشعوب العربية المهاجرة , إذ من المحتمل أن بعض العناصر البشرية بدأت تهاجر منها إلى أحواض الأنهار في بلاد الرافدين وبلاد الشام منذ العصر الحجري القديم , وقد عزا أصحاب هذه النظرية أسباب الهجرات البشرية من شبه الجزيرة العربية إلى حلول الجفاف التدريجي فيها , إذ أن كل الشواهد والدراسات العلمية تؤكد أن شبه الجزيرة العربية كانت منطقة مطيرة خلال عصر البلايستوسين , ولكن مناخها أخذ يتجه نحو الجفاف التدريجي ابتداء من العصر الحجري القديم الأعلى , وقد نتج عن ذلك , اختفاء كثير من الأنهار والآبار , واختفاء العديد من الواحات , وهجرة بعض السكان إلى المناطق الخصبة في بلاد الرافدين وسورية )) , بل إن شبرنجر يرى أن أواسط شبه الجزيرة العربية لا سيما منطقة نجد , هي المنطقة التي انطلقت منها هجرات الشعوب العربية نحو العراق , وهي المنطقة التي أمدت الهلال الخصيب بالسكان وطبعته بطابعها لأكثر من ألفي عام , ومن تلك المنطقة خرجت موجات متتالية من البشر تتبع الواحدة منها الأخرى , حيث استقرت في بلاد الهلال الخصيب ولا تزال حتى اليوم تحتفظ بنفس الصبغة (4) .
خرجت الهجرات السامية من جزيرة العرب بشكل متتالي , وتكاثرت أعدادها في بوادي العراق والشام قبيل منتصف الألف الثالث ق.م. , وتشعبت إلى فروع كثيرة حتى أصبحوا أكثرية السكان في العراق , وسيواصل سكان جغرافية جزيرة العرب ” حركة الهجرة نحو العراق طوال التاريخ كله ” بموجات أو طبقات متلاحقة , تتفاوت في اختلافها عن الجذع الأصلي بمقدار تطورها في الزمن (5) .
وقد ساح بعض تلك الهجرات في الهلال الخصيب في سوريا , في حين اجتذب الخصب في العراق البعض الآخر ؛ حيث يجري نهري دجلة والفرات , فالآموريون حسب الكتابات السومرية كانوا من الشعبة الأولى , أما الجماعات الثانية فقد كان أشهرها الآكاديين والذين جاؤوا عن طريق التسلل البطيء في بداية الأمر قبل أن يستولوا على وسط العراق ببطء شديد في ظل انشغال المدن السومرية بالاقتتال فيما بينها , و قد انتقلوا من مرحلة التعايش إلى استيعاب الحضارة ثم السيطرة على المدن الهامة , وحتى تكوين دولة أو دول سامية كبيرة مستقرة في العراق .
وكان سرجون الآكادي الذي كان يخدم عند أحد الملوك المحليين قد تمكن من توحيد جنوب العراق من الخليج العربي إلى لبنان وأنطاكية والأناضول , بحيث جعل هذا الرجل من حكمه نقطة تحول رئيسية في تاريخ العراق , إذ كان أول من فكر في توحيد العراق وبلاد النهرين قاطبة بعد أن كان السومريون لا يفكرون إلا في حدود سومر وحدها , إلى جانب أن سرجون كان أول من ثبت دعائم أسرة سامية حاكمة قوية حكمت العراق لمدة قرن ونصف , حيث أسس مدينة بابل شعب سامي بدوي يعود إلى أرض أمورّو أي بلاد الغرب على حدود العراق من سوريا , وهو شعب لم يعرف البيوت – قبل تأسيس تلك الدولة – كما تشير النصوص ( 2340-2180ق.م.) (6).
وكانت بابل عاصمة سرجون الأكادي تتمتع بموقع فريد من نوعه جعلها قادرة على أن تصبح عاصمة لدولة كبرى فترى مارغريت روتن أنها لوقوعها على الطريق النهري الكبير الذي يشكله نهر الفرات ؛ كانت تربط بابل بسوريا وبالبحر المتوسط , كما كانت تتصل من جهة أخرى من خلال تلك الطريق بآسيا الصغرى وببلاد فارس, وتشرف على الطريق التي توصل كرمنشاة عبر جبال زغروس (7) , ويذكر ديلابورت أن سرجون كما تشير بعض النصوص أن سرجون بنى أسطولاً وحمل جيشه بحراً لضم دلمون ( أرض البحرين ), وأنه قاتل ( ممثلي الإستراتيجية الإيرانية ) مملكة عيلام في أرضهم في معركتين وانتصر عليهم وعاد ومعه كثير من الأسلاب (8) .
وترى مارغريت روتن أن هذا الشعب السامي البدوي عند استيطانهم لأرض بابل , قدموا الدليل على مدى فهمهم لمعنى الحكم , فقد أرسوا قواعد إدارة منظمة واتخذوا ما يلزم من الإجراءات الضرورية لتحقيق عظمة مملكتهم (9) , وبمعنى آخر فقد أثبتت جغرافية جزيرة العرب أنها أول الجغرافيات الثلاث رغبة في التحفز والحفاظ على مصالحها بالعراق , بحيث أنها سبقت إستراتيجية إيران والدردنيل (الأناضول آنذاك ) في أرض العراق .
الإستراتيجية الإيرانية لأول مرة بالعراق :
( الحقبة الجوتية – العيلامية ) :
على أن التهديد الأولي لإستراتيجية وجغرافية جزيرة العرب لم يأت من الداخل فحسب ؛ بل جاء من إستراتيجية إيران أو تحديداً من الجبال الشرقية أو الشمالية الشرقية لإيران (الجوتيين ) , بحيث استباحوا البلاد وزالت الدولة الآكادية حيث تلاها عصر ” لم يكن يعرف أحد فيه الملك من غير الملك ” كما يقول نص سومري (10) .
كان ذلك هو التحدي الأول لإستراتيجية وجغرافية جزيرة العرب من إستراتيجية وجغرافية إيران , حيث أن الجوتيين خضعوا في بداية الأمر للأكاديون واستكانوا لجبروتهم , وبدأوا يتعلمون من جيوش الأكاديون أساليب الحرب المنظمة وعتادها , كما بدأوا يتحينون الفرص للانقلاب عليها , حتى فرضوا وجودهم شيئاً فشيئاً على معظم أجزاء الدولة الأكادية , ويبدو أنهم طبعوا إستراتيجية إيران منذ عهدهم وحتى التاريخ المعاصر بالوحشية والدموية التي اختصت بها تلك الإستراتيجية على مر العصور , وقد وُصِفوا من قبل أحد الأدباء السومريين بأنهم ” وحوش الجبال الذين فتكوا بالسكان واغتصبوا النساء من أزواجهم وسلبوا الأطفال من أمهاتهم , وعملوا على فساد الحكم ونهبوا سومر ونقلوا كنوزها معهم إلى الجبال “(11).
وقد ظهرت قوة أخرى من الشرق أي من قبل الإستراتيجية الإيرانية أيضاً , هددت سومر وأكاد و هم العيلاميون أو مملكة عيلام جيران العراق من الشرق , والذين كانوا أشد عنفاً ووحشية , إذ بدأوا وفق إستراتيجية أرض فارس للاستيلاء على العراق , مستكملين لما قام به الجوتيين الذين آثروا الاستقرار بكركوك شمال العراق ثم ذابوا بحضارة بلاد النهرين , ولكن العيلاميون لم يستطيعوا السيطرة على أور عاصمة العراق – التي قامت بعد سقوط آكاد قبيل القرن الحادي والعشرين ق.م. – إلا من خلال تعاونهم مع الأموريون سكان صحراء العراق من الغرب ؛ بحيث أصبحت أور بين فكي كماشة , وهنا تمكن العيلاميون من احتلال أور (12) .
وهذا هو الدرس الأول للإستراتيجية الإيرانية التي سيحاول ملوك إيران عبر العصور اعتمادها في كل مرة للسيطرة على العراق في المستقبل . بحيث أن الإستراتيجية الإيرانية كثيراً ما لجأت إلى التحالف مع قوى محلية بالعراق أو حلفاء لهم ضد العراق يكونون ممن يعيش غرب العراق.
في حدود عام 2170ق.م. بدأت ” حرب أجناس ” كما يصفها ديلابورت لأكثر من سبعين عاماً , وكان الصراع يستهدف سهول العراق الغنية التي جهد العيلاميون ؛ ممثلي الإستراتيجية الإيرانية لتملكها , ورغم أنهم حققوا انتصارات خلال تلك الفترة إلا أن ملوك بابل تمكنوا من هزيمتهم في حدود عام 2094ق.م. (13) .
ولكن لم يمض وقت طويل من الصراع بين الإستراتيجيتين (جزيرة العرب وإيران ) حتى تمكنت شعوب الأموريون بالتعاون مع سكان العراق الأصليين من طرد العيلاميون واتخذوا من مدينة بابل عاصمة لهم في عام 1880ق.م. وظلوا يوسعون ممتلكاتهم على حساب العيلاميون حتى جاء أشهر الملوك البابليين الساميين حمورابي في عام 1728ق.م. وتمكن من طرد أعدائه بشكل نهائي من جنوب العراق ؛ بل وسيطر على الصحراء الغربية للعراق واعترفت آشور بنفوذه , كما لاحق العيلاميون إلى عمق بلادهم واحتل معظم الجبال الشمالية والشمالية الشرقية من الحدود بين العراق وإيران (14) .
ولم يضعف البابليون مع ضخامة الغزوات الهندو- آرية على جنوب ووسط العراق إلا والآشوريون وهم من الجنس السامي يسيطرون على أجزاء واسعة من العراق خاصة شماله , بينما ظل العيلاميون في أرض فارس يمنون أنفسهم بالعودة إلى أرض العراق من جديد , ويرى بعض المؤرخين أن هؤلاء العيلاميون قد تسللوا ودخلوا كعمال ومرتزقة إلى العراق وأحياناً كان تسللهم يتخذ شكلاً من أشكال قطاع الطرق أو الغزو , ويرى وينهايم أن ” قدرة البابليين على صد عيلام تمثلان خير مثل على الحنكة والدهاء السياسي لبلاد بابل ” , ومع ذلك فقد تمكنوا في بعض الأحيان من تدمير مدينة بابل غير أنهم في تلك الفترة – وكعادة الإستراتيجية الإيرانية – سلبوا كنوزها وعادوا بها لعاصمتهم سوسة بما في ذلك نصب سرجون الآكادي ونصب تشريعات حمورابي وغيرها (15) .
ولعله إثر موجة الهجرة أو الغزو الهندو-آرية للعراق والذي سيطر على الأحداث والصراعات مع الساميين هناك لقرون عديدة ؛ بحيث انشغل الساميون بمقاومتهم والصراع معهم , فقد أعقبها هجرات جماعية جديدة من قبل جغرافية جزيرة العرب , ففي حدود 1400ق.م. شهدت بوادي الشام والعراق – وهي الامتداد الطبيعي للهجرات السامية والعربية حتى العصور الحديثة – تحركات سامية أخرى اتجهت بأطماعها وفق مصالحها نحو الهلال الخصيب منذ القرن الرابع عشر ق.م. وبدأت تجمعات تلك الشعوب والقبائل السامية بالتجمع فيما بين الفرات الأوسط وشرق ووسط وغرب سوريا ؛ بحيث بدأت تفرض نفسها على أطراف الدولة الآشورية في حدود القرن الثالث عشر ق.م. ؛ بل وتعدت بنفوذها نهر الفرات إلى داخل العراق ؛ مما أقلق الدولة الآشورية السامية نفسها , بحيث أنها رأت أن هذه الشعوب والقبائل السامية لم تقنع بالحياة القبلية والرعي من أطراف العراق , كما لم يكتفوا بالتسلل إلى مواطن الحضارة والمدنية والخصب والعمران , وإنما الأخطر من ذلك أنهم بدأوا بالتكتل في إمارات محلية أطلق عليهم الآشوريين لقب الأراميون ورغم الحروب التي شنتها آشور ضدهم , غير أن هجرات الأراميون ظلت مستمرة خاصة على حساب المدن الخاضعة للشعوب الهندو- آرية المهاجرة إلى العراق (16) .
إستراتيجية الجزيرة العربية تستعيد حيويتها :
(الحقبة الآشورية ) :
في وقت ظل الآشوريين في عصرهم الأوسط في حدود القرن الحادي عشر ق.م. لا يسيطرون على العراق فحسب ؛ بل على كل منطقة الشرق الأدنى من العراق إلى أرمينية وشرق آسيا الصغرى ( الأناضول)وشمال سوريا ولبنان وصيدا والصحراء السورية والعراقية , وظلت آشور في العصر الآشوري الحديث كذلك تتبادل الحروب مع الآراميين الذين تحضروا في بعض المناطق , وإن ظلوا أصحاب براري كم تصفهم بعض النقوش الآشورية , بيد أن آشور في عصرها الحديث من 932-612ق.م. سيطرت على الشرق الأدنى أو آسيا الغربية من الخليج العربي وحتى أرمينيا من جبال إيران المتاخمة للعراق من الشمال والشرق فالصحراء السورية وصولاً إلى آسيا الصغرى وجبال طوروس والإمارات الأرامية في وسط وغرب سوريا حتى موانئها البحرية ؛ مع “السيطرة الكاملة على الطرق التجارية والحربية التي تتجه غرباً إلى الشام حيث المجد… ووفرة المنتجات … والمخارج البحرية ” (17) .
وخلاصة القول أنه ماعدا هجمات العيلاميون من قبل أرض فارس ؛ فإن جغرافية إيران قد انحسر تأثيرها عن أرض العراق لصالح الهجرات السامية (جغرافية جزيرة العرب ) , وبشكل حاسم عبر عصور العراق ما بين 2400ق.م. وحتى 600ق.م. , ولم تتمكن من التدخل المؤثر باتجاه تغيير الأوضاع بالعراق ؛ عدا قيامها بمناصرة بعض ملوك بابل الثائرين ضد سلطة آشور ولفترات قصيرة للغاية , ولعل نقوش سنحاريب الآشوري كانت تسخر من خضوع الملك البابلي الذي نعته النص بـ ” العبد ” وأنه فتح كنز هيكل مردوخ الإله وزوجته , وأخذوا منه ذهب وفضة لتقديمه لملك عيلام الإيراني ” وهذا يؤكد الأسباب والأهداف الاقتصادية وراء محاولات الإستراتيجية الإيرانية المتكررة لغزو أو السيطرة على العراق (18) .
وفي نفس الوقت نجد أن جغرافية الدردنيل لا تزال بعيدة عن أن تنافس أو تصارع جغرافيتي الجزيرة العربية وإيران على العراق في تلك العصور , حيث كانت منشغلة في عالم أوروبا وأفريقيا الشمالية ولم تتجه للشرق بعد , لقد سيطرت إستراتيجية وجغرافية جزيرة العرب على العراق والشام عبر عصور التاريخ باعتبارهما مناطق حيوية قصوى لسكان جزيرة العرب .
في مطلع القرن الثامن ق.م. بدأت القبائل العربية – السادة الجدد لجزيرة العرب – بقيادة الملك جندب العربي والملكة أريبي والملكة زبيبي أو زبيبة والملكة سمسي أو شمس العربيات ؛ بدأت تظهر في النقوش الآشورية وهم يقاتلون الآشوريين على إبلهم أو يقيمون تحالفات لغزو بلاد آشور , أو يحاولون الاقتراب من حدود دولة آشور , بحيث كما يبدو أن جزيرة العرب قد فُرِّغَتْ من الساميين لصالح آخر الشعوب السامية وهم العرب ؛ الذين فيما يبدو ومع بداية القرن التاسع ق.م. قد ظهروا على مسرح التاريخ ؛ ليمثلوا ابتداء من ذلك التاريخ جغرافية جزيرة العرب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إن شاء الله , فقد بدأ العرب يهددون بنو عمومتهم الساميين في العراق لأن العراق تظل في نظر جغرافية وإستراتيجية جزيرة العرب لها الأهمية القصوى بالنسبة لسكان الجزيرة العربية ومصالحهم .
ولعل جغرافية إيران ظلت تحلم باستمرار بالعراق , ذلك الفردوس المفقود الذي لم تنل منه إلا القليل , وفي الوقت الذي جرى تغيير في السلالة الحاكمة الآشورية وحكم شروكين الثاني (سرجون الثاني ) على العرش الآشوري , فإن بعض ملوك الأسر الحاكمة القديمة بالعراق قد اضطرت إلى الاستنجاد بالقوات العيلامية ؛ وذلك حين استنصر أحد ملوك الأكاديين الثائرين بالقوات العيلامية لاستعادة بابل من آشور , كما تعاونت شعوب إيرانية أخرى مع ملوك آخرين بالعراق ضد الآشوريين , حيث بدأ هؤلاء الحلفاء الإيرانيين (( يعملون لحسابهم ويحطمون من بقي على الولاء لآشور من جيرانهم )) , وكانت جغرافية إيران تلعب وتتبنى مثل هذه التحالفات من أجل تحقيق المصالح الإستراتيجية لإيران في بلاد العراق , حيث (( استخدم العيلاميون كل من الكلدانيين والبابليين للقيام بدور مخلب القط في بعض مراحل العداء )) ضد آشور والعراق , ولكن مع ذلك فإن العيلاميون كانوا يأتون إلى العراق في غزوات لمدة قصيرة فقط (19) .
ولكن الآشوريين بعد أن فرغ سرجون الثاني من تدمير مملكة نابلس اليهودية و أعاد بناء المدينة على أسس عمرانية جديدة , فإنه قد رأى استجلاب العرب كأبناء عمومة للآشوريين , وقام بتوطين مجموعات من العرب البدو في نابلس بعد أن أسر من فيها من اليهود , ثم توجه لتأديب ملوك العراق المحالفين لإيران , ولعل هذا الحادث إلى جانب سياسات الملك البابلي – فيما بعد ( نابونهيد ) – تثبت كم أصبح مصير العراق في مواجهة الإستراتيجية الإيرانية معلقاً بما كان ينتظره زعماء العراق – آنذاك – من مساعدات بشرية (ديموغرافية ) وعسكرية من إستراتيجية جزيرة العرب لهم لمواجهة أعدائهم في العراق وفلسطين , فإذا كان الدرس الأول هو استخدام بعض أبناء العراق من قبل الإستراتيجية الإيرانية ” كمخلب قط والذي أصبح سياسة ثابتة للإستراتيجية الإيرانية عبر العصور ؛ فإن الدرس الثاني للإستراتيجية الإيرانية هو التعاون الإيراني مع أعداء العراق من الغرب .
وحين توجه سرجون الثاني إلى بابل ترك العيلاميون الإيرانيون ملك بابل الأكادي وحيداً أمامه , حيث تمكن سرجون الثاني من مد حكمه لكامل العراق من شماله إلى جنوبه , وظلت دولة آشور وهي المنبثقة من رحم إستراتيجية وجغرافية جزيرة العرب تعادي إستراتيجية وجغرافية إيران إلى أبعد مدى , وقد ظل العيلاميون أربعة قرون يمدون الكلدانيين ضد الآشوريين بالدعم ويوفرون لهم ملاذاً آمناً من إجراءات التأديب الآشورية لمنعهم من تهديد مصالحهم بالعراق , بل إنها قامت بهجوم سريع ومباغت على وسط العراق وأسروا ابن سنحاريب المنصب ملكاً على بابل ونصبوا ملكاً صنيعة لهم , ولذا فقد اضطر سينا خريب أو سنحاريب إلى نقل الأخشاب لصناعة أسطول بحري ؛ إلى جانب نقل بعض السفن عن طريق البر في حين قام صناع من صور وصيدا وقبرص ببناء بقية السفن – ربما على ضفاف شط العرب – لينشئ أول أسطول بحري آشوري خلال عام كامل من أجل تعقب أحد الملوك المتعاونين مع ملوك عيلام الإيرانيين , حيث عبروا به الخليج نحو الشاطئ الإيراني لتدمير خصومهم , ومن ناحية ثانية فقد قام سينا خريب بتدمير مدينة بابل تدميراً كاملاً وأغرقها بمياه الفرات عام 689ق.م. لأسباب ذكرها في أحد النقوش الآشورية :كان من أهمها من وجهة نظر آشور أن بابل قد (( باعوا الفضة والذهب والأحجار الكريمة منه إلى عيلام ))(20) , مما يعني أن الآشوريين كانوا يرون أن بيع هذه المعادن الثمينة من المحرمات التي استحقت بابل بسببها التدمير الكامل , وفي نفس الوقت يوحي إلى أن آشور كانت تفرض على إيران حصاراً اقتصادياً يشمل أهم سلع ذلك العصر .
ولعل العداء بين عراق آشور ( التابعة لإستراتيجية جزيرة العرب ) وبين عيلام الإيرانية قد بلغ مداه في عهد آشور بانيبال ؛ حيث أن السياسة الناجحة الوحيدة التي تمكن من خلالها آشور بانيبال تدمير الإستراتيجية الإيرانية هي : تفريق أسرتها الحاكمة إلى فريقين حتى أنهكتها الحروب الأهلية , وكان لتدخل الآشوريين ما يزيد لهب نار تلك الحرب من خلال تأليب الفريقين على بعضهما , حتى جاءت النهاية السياسية لعيلام على يد جيوش آشوربانيبال فدمر عاصمتها سوسة تدميراً شاملاً واستولى على كل كنوزها , وهو ما فعله العيلاميون ببابل حين سلبوا كل ممتلكات بابل المالية والكنوز من الذهب والآثار في نهاية القرن الثاني عشر ق.م. , ولكن هذا النصر الكبير الذي حققته آشور على عيلام في عام 644ق.م. كان فيه الكثير من الخطر على العراق ذلك أن مملكة عيلام كانت تقف حاجزاً بين العراق وبين القبائل الإيرانية البدائية , وبعد تدمير عيلام أصبح على آشور أن تتعامل مع تلك القبائل المخربة مباشرة (21) .
منافسة الإستراتيجية الإيرانية لممثلي جزيرة العرب بالعراق ( الحقبة الكلدانية ) :
ضعف الآشوريون وبضعفهم ستضعف إستراتيجية جزيرة العرب من حيث قدرة قبضتها على الإمساك بمصالحها بالعراق , يبدو أن إستراتيجية جزيرة العرب في تلك الحقبة لم يتمكنوا من تطبيق الدروس التي تعلموها في العراق ؛ فقد كان الدرس الأول لإستراتيجية جزيرة العرب هو الحصار الاقتصادي لإيران وقت الحرب خصوصاً والتي كانت دائماً هجومية من قبل إيران ودفاعية من قبل العراق , أما الدرس الثاني : فهو الضرب بيد من حديد على يد أبناء العراق ومنعهم من التعاون مع الإستراتيجية الإيرانية , أما الدرس الثالث : فهو استخدام مبدأ ” فرق تسد ” لمنع وحدة إيران تحت مظلة حكومة واحدة لتظل إيران ضعيفة ؛ ونتيجة لهذا الضعف ؛ فقد عصفت بهم أسباب داخلية وخارجية جعلت البابليين والكلدانيين وبدعم من الماذيون الإيرانيون والذي أطلق عليهم الإغريق اسم الميديين – وهم فرع من الفروع الإيرانية ذات الأصل الآري – من بناء اقتصادهم بعد قيامهم باستغلال الجبال الجنوبية لإيران والغنية بمعادنها وأحجارها الكريمة , وتمكنوا من إعلان حرب كبيرة على آشور , خاصة بعد أن تم طرد الحامية الآشورية من مصر وقيام ثورات على آشور ببلاد الشام .
قاد زعيم الماذيين هواخشير أو (كيخسرو) تحالفاً من القبائل الماذية الإيرانية إلى جانب العراقيين الجنوبيين من البابليين والكلدانيين الحاقدين على العسكرية الآشورية وقسوتها ؛ بحيث تحالفوا مع عدوهم الماذيين ضد دولة آشور العراقية بالشمال والوسط من العراق , وتمكن هذا الحلف من تدمير عاصمة آشور نينوى تدميراً عنيفاً عام 612ق.م. , وقد اعترفت الوثائق البابلية أن هذا الجهد في النصر والتدمير كان من نصيب الماذيين العتاة , ليس في تدمير نينوى فحسب ؛ بل في اجتياح الأقاليم العراقية التي رفضت الاعتراف بالوضع السياسي الجديد الذي أعقب سقوط المُلك السامي الآشوري وتدمير نينوى , أو التي رفضت الاعتراف بالملك البابلي الجديد حليف إيران (صنيعة إيران ) ؛ بحيث دمروا حتى المعابد العراقية , ويذكر النص البابلي هذا الاجتياح الإيراني بقوله ((إنهم اكتسحوا ما فوقهم وما تحتهم وما على يمينهم ويسارهم , وكانوا كإعصار الفيضان )), ولم يكن في وسع الحليف أو العميل البابلي إلا السكوت في سبيل القضاء على الغول الآشوري أو على وصف تعبير النصوص البابلية أن الملك البابلي الحليف لإيران (( لم يجد أمامه إلا أن يرسل شعره مهوشاً دون تمشيط ويؤثر النوم على الأرض دون المضاجع , تدليلاً على براءته من انتهاك حرمة المعابد على أيدي حلفائه )) (22) . لقد كانت ثروة وغنى الشعوب السامية المستقرة في وسط وشمال العراق تثير حسد وشهوة أولئك البدو العيلاميون في إيران , مما يجعلهم يؤيدون المتمردين على السلطة هناك (23) .
المواجهة الأولى بالعراق بين إستراتيجيتي إيران والدردنيل:
(حقبة الليديون ) :
كان جزء كبير من أهداف هذه الحرب الطويلة ذات أسباب اقتصادية بين آشور العراقية من جهة وبين الإيرانيون وحلفائهم العراقيين في جنوب العراق من جهة أخرى , حين انسحبت فلول المقاومة الآشورية , بعد أن أحرق ملكهم نفسه في عاصمته ؛ نحو حرَّان في شمال العراق , وكانت حران عصباً رئيسياً لأحد طرق التجارية الكبيرة بين بلاد النهرين , بل إن أحد معاني اسمها يعني الطريق , ورغم النجدات المصرية لبقايا فلول آشور إلا أن الهجمة الإيرانية وحلفائهم العراقيين ( وهو الدرس الأول للإستراتيجية الإيرانية ) كانت أعتى من أن تبقي آشور في حران , فاضطروا إلى الانسحاب منها وإخلائها ليدخلها الماذيون والبابليون , وبعد ثلاث سنوات انتهت المقاومة الآشورية ؛ بعد أن أثبتوا أنهم أعنف قوة عسكرية منظمة شهدها تاريخ الشرق القديم حتى عصرهم (24) .
يبدو أن التاريخ كان يرسم أو يشهد آنذاك سيناريو سيتكرر حدوثه بين عصر وآخر , فقد قويت بابل من جديد واعتلى عرشها نبوخذ نصر , وسلطه الله على مملكة أورشليم ؛ بعد أن كان الملك الآشوري سرجون الثاني قد قضى على مملكة نابلس , وقام بنفي سكانها اليهود قاطبة وهم من عشرة أسباط من أسباط بني إسرائيل وأسكنهم حسب سياساته آنذاك في مواقع متفرقة من مملكة آشور ليمنع قدرتهم على الثورة مرة أخرى , ولا يعرف أبداً إن كانوا ظلوا أحياءاً واندمجوا مع بقية شعوب الأرض أم تم فناؤهم على يد الآشوريون أو شعوب الأرض الذين سكنوا بأرضهم , ولا يزال البروتستانت وخاصة الإنجليز يبحثون عن أين ذهب الأسباط العشرة .
هذا السيناريو سيكون على الدوام عداءاً مستحكماً بين العراق واليهود بفلسطين وهو الدرس الرابع للإستراتيجية العربية بالعراق , يكون نتيجته استغلال الإستراتيجية الإيرانية لصداقة اليهود أو اليهود وحلفائهم من أجل تدمير العراق وإستراتيجية جزيرة العرب بالعراق أو من يمثلونها ؛ لصالح الإستراتيجية الإيرانية , وقد أثبت التاريخ رسوخ هذا التحالف الإيراني اليهودي ونجاحه في حالات عديدة متشابهة خصوصاً بعيد تغلب القومية الفارسية على بقية القوميات الأخرى الإيرانية .
ماجت الهضاب الإيرانية المجاورة للعراق كإعصار مدمر من خلال ” تحركات قبائل فتية عاتية أصرت على أن تفرض نفسها على عصرها فرضاً , وأن تبدأ فيه من حيث انتهى غيرها ” , في وقت كانت الدولة الماذية قد سيطرت على شمال وشرق العراق مستفيدة من الطرق التجارية هناك لدعم اقتصادها , ثم اتجهت غرباً نحو آسيا الصغرى حتى وصلوا إلى نهر هاليس في آسيا الصغرى , ثم تصادمت مع دولة ليديا هناك والتي تمتزج بها حضارة الغرب بالشرق , وقد انحازت مملكة بابل العراقية في حرب الماذيين مع الليديين إلى حلفائهم الإيرانيين (25) , مما يعني أن جغرافية وإستراتيجية إيران كان لها الغلبة في العراق آنذاك في حدود 591 ق.م.ولعلنا نقول أنه منذ ذلك العصر ركزت الإستراتيجية الإيرانية على ضرورة أن يتبعها الجزء الجنوبي من العراق بحيث يأتمر سكان تلك المناطق بأمر قادة الإستراتيجية الإيرانية وهو كما ذكرنا الدرس الثاني للإستراتيجية الإيرانية .
وبينما كانت إستراتيجية جزيرة العرب تقاوم بضعف كبير – أو في الساعات الحرجة الأخيرة من المعركة – عن مصالحها بالعراق من خلال بقايا الساميين في بابل , ونجدات العرب لهم في الجزيرة العربية , فإن إستراتيجية الدردنيل قد بدأ الإيرانيون باستجلابهم من خلال استفزازهم نحو الصراع على العراق , ولم تنتهي الحرب بين الطرفين إلا بحدث فلكي كبير حين كسفت الشمس كسوفاً كلياً , وأظلمت الدنيا في وضح النهار وكان أحد العلماء الإغريق قد تنبأ بدقة في هذا الكسوف مسبقاً بينما ذعر الماذيون والليديون واعتبروا الحدث نذير شؤم في وقت صادف هذا الحدث أحد أيام السنة السادسة للحرب بين الطرفين (28 مايو585ق.م.) , بحيث توسط ملكي بابل وقلقيلية (كيليكيا ) بينهما وفي وقت آذنت مملكة الماذيين بأن تطوى صفحتها.
وعلى أنقاض مملكة الماذيين قام بيت مالك جديد من قبائل الفرس يعتقد هذا البيت المالك أنه أعرق وأكثر أصالة من الماذيين إذ أن والدة ذلك الملك كانت ابنة آخر الملوك الماذيين بحيث تمكن من توحيد المعارضين لمملكة ماذي والقضاء عليها عام 555ق,م, حيث بدأت أسرة بيت حاكم جديد لإيران أسمها الأسرة (الهخامنشية ) أو كما أطلق عليها الأخمينية والتي يطلق عليها الدولة الفارسية الأولى يدفعها اعتزاز عنصري وقومي جديد بنسبها ولديها طموحات كبيرة , فقد وصف الملك قورش نفسه يقول (( أنا ابن قمبيز الملك العظيم …حفيد قورش الملك العظيم ملك أنشان … من أسرة ملكية دائماً )) كما وصف أحد ملوكهم نفسه بقوله (( أنا ابن الملك دارا الهخامنشي , فارسي بن فارسي , آري من نسل آري )) (26) .
يبدو أن معاصري هذه المملكة الأخمينية قرأوا توجهاتها القومية العنيفة وأقلقهم هذه النهضة الفارسية – الإيرانية ؛ مما استدعى تشكيل تحالف دولي ضدها شمل كل من بابل وليديا ومصر وإسبرطة الإغريقية , وكانت ليديا في آسيا الصغرى التي تبدو أنها تمثل إستراتيجية الدردنيل ؛ إلى جانب مملكة إسبرطة الإغريقية ؛ حيث كانت تطل بممتلكاتها على بحر إيجة أكثر دول التحالف تخوفاً من الإستراتيجية الإيرانية , ولهذا فقد أعلنت الحرب مبكراً حتى قبل وصول القوات المتحالفة الأخرى للانضمام إلى جيشها الغازي لأطراف المملكة الأخمينية , ولكن المفاجأة أن سحقت الجيوش الفارسية بطوفانها القوات الليدية قبل وصول حلفائها ولاحق قورش الفارسي جيوشها إلى عاصمتها التي قام قورش بتدميرها وأسر ملكها (27) .
وقد كان هذا ثاني استفزاز من قبل الإستراتيجية الإيرانية لإستراتيجية الدردنيل في العراق , كما كان أول محاولة من قبل الأخيرة (ليديا )أن تجرب غزو العراق لرد أخطار الإستراتيجية الإيرانية ؛ وهو الدرس الذي تعلمته إستراتيجية الدردنيل جيداً .