مذكرات مدير عام سابق للتربية والتعليم 5/13
كنت قد زرت مدرسة بالرياض أسمها مدرسة الفهد , أبلغت أن نظامها مختلف عن التعليم العام بالمملكة العربية السعودية , لم يكن لدينا بالمركز كتيب عن نظام المدرسة ؛ فتمكنت من أخذ فكرة عامة من الزملاء الذين سبق أن زاروها , ولكن ليس من سمع كمن رأى ؛ جلست مع مدير المدرسة , وبدأ يحدثني
المساهمة في التغيير والتطوير /
مدرسة الفهد :
كنت قد زرت مدرسة بالرياض أسمها مدرسة الفهد , أبلغت أن نظامها مختلف عن التعليم العام بالمملكة العربية السعودية , لم يكن لدينا بالمركز كتيب عن نظام المدرسة ؛ فتمكنت من أخذ فكرة عامة من الزملاء الذين سبق أن زاروها , ولكن ليس من سمع كمن رأى ؛ جلست مع مدير المدرسة , وبدأ يحدثني بنوع من الاختصار عن النظام ؛ وهو غير ملام فالمفترض أن جميع من يزورون المدرسة قد درسوا نظامها قبل زيارتهم لها , ولكن في المقابل يفترض منه أن يوضح ما لم تستطع الأوراق تفسير غموضه ؛ ولعله دائماً هناك فارق كبير بين النظرية والتطبيق .
قال لي مدير المدرسة أشياء كثيرة ” مؤسس النظام قد تبرأ منه ” فهو قد عرض فكرة بعينها ؛ ولكن وزارة المعارف قد أجرت كثير من التعديلات على فكرته فولدت مشوهة تماماً – على الأقل هذا ما قاله مدير المدرسة – ؛ وقال ” لقد ولدت هذه المدرسة ميتة ” ؛ كانت الصورة في ذهنية مبتكر فكرة النظام مختلفة تماماً عن ذلك النظام الذي أجري عليه تعديلات كثيرة مست بأسس الفكرة قبل أن يقر كنظام تحت التجربة , وحين أصبحت الفكرة / التجربة تحت التطبيق ؛ كانت الصورة ليست تلك التي عبر عنها كاتبها ؛ فما هي مدرسة الفهد بالرياض .
يدخل الطالب للصف الدراسي الأول المتوسط ؛ لا يوجد زمن محدد ولا جدول محدد له يختار جدوله بكامل الحرية أو تحت إشراف معلميه , فيمكنه مثلاً أن يدرس في السنة الأولى خمس مواد فقط – على سبيل المثال- كالتوحيد والرياضيات والجغرافيا والقواعد والنصوص , ولكنه يدرس المواد إذا قرر ذلك بشكل عمودي بدلاً من الشكل الأفقي ؛ فبدلاً من أن يدرس مواد الصف الأول متوسط بشكل أفقي أي كامل المواد ؛ يمكنه أن يدرس المواد الخمس التي اختارها بشكل عمودي أي يدرسها للصف الأول فإذا اجتازها يدرس نفس المواد في الصف الثاني وبعد اجتيازها يمكنه أن يدرس نفس المواد للصف الثالث ثم يعود لدراسة مواد أخرى بنفس الطريقة . ويمكنه أن ينجح في سنتين من المرحلة المتوسطة إلى الثانوية , كما يمكنه أن يجلس دون رسوب أربع سنوات أو خمس سنوات حسب قدرته .
كنت قد بدأت أشم رائحة الفوضى في ذلك النظام من خلال أسئلتي اللحوحة حيال جزئيات النظام وأجوبة أو حديث مدير المدرسة ؛ ويبدو أنني كنت الأول الذي “جففت ريقه ” من كثرة أسئلتي , قابلت المعلم الوحيد بالمدرسة وأخذت منه الكثير من جزئيات النظام التي لم يتحدث عنها مدير المدرسة , واطلعت على أعماله الكتابية الأخرى , فوجدت أن أنها ليست فوضى فحسب وإنما فوضى عارمة , ثم دخلت معه للدرس لأشاهد كيف تختلف النظرية عن التطبيق ؛ وحيث كانت النظرية غير مقنعة فكيف ستكون إذاً مسألة تطبيقها , بدأ المعلم بما أسماه نصائح فمضت على موعظته عشر دقائق , ثم فتح المجال للدرس فوجدت المعلم يتعامل مع أكثر من عشرين طالب في حوالي سبعة أو ثمانية مواضيع لمادة التاريخ بين ثلاث مستويات ( أولى وثانية وثالثة ) وبعض الطلاب في كل مستوى يختلف موضوعه عن الموضوع الذي يدرسه زميله ؛ صعقت إنها ليست فوضى عارمة فحسب ؛ إنما هي جريمة في حق جيل كامل درس بهذا النظام الفوضوي .
تابعت آداء المعلم فوجدته لا يستعمل أية وسائل تعليمية أو إيضاحية كما لم يستعمل أية أجهزة تقنية ؛ بل إنه لم يستخدم السبورة فضلاً عن الأقلام أو الطباشير الملون وظلت سبورته بيضاء أو خضراء كما كانت , ولا صور ولا خرائط ؛ لقد صمم النظام ليستفيد التعليم من طريقة الكتاتيب بشكل مناسب للعصر ؛ ولكن لم يتمكن باني هذا النظام من تقليد مشية الحمامة ولم يحافظ على مشية الغراب ؛ وأنا هنا في حقيقة الأمر أوجه نقدي لنظام المدرسة ذاته وليس للمعلم ولا لمدير المدرسة ولا لصاحب الفكرة .
سألت الطلاب فوجدت كارثة في حصيلة معلوماتهم فكأن كل منهم يتخلص من مسئولية الإجابة على السؤال بأنه قد أخذ هذا الدرس منذ عدة أشهر أو أنه لم يأخذ ذلك الدرس والحصيلة أن لا يجيب على سؤالك أحد , هروب مستمر نحو الاختبار ؛ فمن حق الطالب كلما أنجز مجموعة من الدروس أن يطلب اختباراً بمفرده دون زملائه أو لمجموعة صغيرة دون الآخرين , ويتجاوز ذلك الجزء إلى الأبد, وليت شعري كيف يستطيع المعلم أن يدير شرحاً لسبعة دروس ويراقب اختبار طلابه بنفس الوقت , ثم لا عليه إن لم يتذكر ذلك أبداً حتى لو أنه تم الاختبار يوم أمس , جزء كبير من وقت المعلم يتم صرفه على النصائح والاختبارات .كاد يُغمى علي ألماً من هذه المهزلة التي يسمونها نظام خاص بالمدرسة , وسرعان ما انتهى زمن الحصة , أتذكر أن المدرس اعتذر عن قصر زمن الدرس بالنسبة لكثرة العمل , فأجبته حين تصنع نظاماً جديداً يجب مواءمة تفاصيله حسب مقاسات ذلك النظام ؛ فحين أريد أن أفصل ثوباً أبيضاً لا يمكنني أن أقبل من الخياط أن يستخدم أزارير أو خيوطاً حمراء وإلا فشل في أن يجعلني ألبس ذلك الثوب , فطالما أنك تدرِّس ثلاثة كتب وعشرة موضوعات كان يجب أن يكون زمن الحصة ساعتين على الأقل .
خرجت وأنا غير مصدق أن توافق وزارة المعارف على مثل هذا النظام للتعليم , فكلمة نظام أو نظام تجريبي ليس من السهل تجريبه دون أن يكون هناك أسس منطقية لنجاح ذلك النظام .
حين جئت لمدير المدرسة سألني كيف رأيت المدرسة ؛ بهدوء المحبط المندهش قلت : في أسوأ حال ؛ لا أكاد أصدق كيف تبقى المدرسة حتى هذا الحين , من الخطأ بل الجريمة الكبرى في حق فلذات أكبادنا أن نجعلهم يستمرون في هذه المهزلة , وطالما أنك قلت أن صاحب الفكرة يقول إنها ولدت ميتة ؛ فلِمَ إذاً تبقى ؟ ! رغم عدم رضاه إلا أنه لم يكن يجب أن يسمع مني كل ذلك النقد؛ تناقشنا حول التفاصيل وبينت له سلبيات النظام ؛ فالمعلم لا يتمكن من شرح أي درس على الإطلاق يذهب لمقابلة كل تلميذ على حدة يسأله ما الصعوبة في الدرس الذي يقرأه بصمت ؛ ولأن التلميذ لم يفهم الدرس فإنه ليس لديه أسئلة ومن هنا فالمعلم لا يشرح وليتجاوزه إلى غيره , فيبدأ يحفظ وينشط ذاكرته لكي يجيب على أسئلة المعلم ليتجاوز مجموعة الدروس ويضعها وراء ظهره ! قال المعلم : ألم تراني قضيتُ عشرة دقائق في نصح الطلاب . قال المدير : هذه سلبية وليست إيجابية كم عندك من دقيقة لشرح الدروس حين تضيع عشرة دقائق من كل درس على النصائح . قلت للمعلم : والوسائل التعليمية , واستخدام السبورة , وتحقيق الأهداف التربوية !! ؛ لقد حققت هدف واحد لبعض الطلاب هو هدف التذكر وتنشيط الحفظ لديهم ولكن هل حققت أهداف أخرى كالفهم والتحليل والتطبيق والتركيب والأهداف الوجدانية والمهارية الأخرى ؟ ؛ هل تمكنت من قياس مدى تحقيقك للأهداف التربوية ؟ ؛ أم أن المسألة تكمن فقط في إعداد الطلاب للاختبار لاجتياز المادة !؛ بينت لمدير المدرسة وللمعلم أن القضية لا تعني نقداً للمعلم فهو مثل عشرون معلماً بالمدرسة أجبره نظامها على هذا الآداء ؛ فأنا حين أقدم هذا النقد البناء فإنما هو موجه لنظام المدرسة وليس للأشخاص , القضية أن الفكرة في ذهن صاحبها في وادي والتعديلات التي حشرت على الفكرة أطاح بها في واد آخر ثم جاءت اجتهادات التطبيق لتطيح بالفكرة في وادٍ ثالث .
جئت إلى مركز التوجيه التربوي وعكفت لأيام على إعداد تقرير تربوي عن وضع المدرسة , وطالبت بتشكيل لجنة تدرس إمكانية إلغاء النظام من استمراره ؛ شجعني مدير المركز وقتها الأستاذ طلال الحجيلان على ذلك , وقد شكلَّت الوزارة لجنة في العام التالي ودرست اللجنة مشكلة المدرسة وحين انتقلت لمنطقة الجوف بلغني أن المدرسة قد أوقف نظامها العتيق .
مؤتمرات مديري التعليم /
كانت جريدة الرياض قد قررت تخصيص صفحة كاملة للتربية والتعليم وكنت قد بدأت أكتب بعض المقالات في تلك الصفحة ؛ وقد بدأ الكثير من الزملاء والأصدقاء بمجتمع الرياض التربوي يشدون على يد محرر الصفحة أن يفسح المجال لي بالكتابة باستمرار , وكنتُ في حقيقة الأمر مشغول حتى أخمص قدمي برسالة الماجستير ؛ حتى أنني اضطررت إلى السفر إلى بريطانيا وفرنسا والمغرب لكي أبحث عن الوثائق والكتب اللازمة لدراستي التي كان عنوانها ” سياسة بريطانيا تجاه التوسع الفرنسي بالمغرب من عام 1898-1912م ” , وسأفرد فصلاً عن تجربتي في هذا الأمر في مكان آخر .
ألح علي الزميل الأستاذ سعد الهويمل محرر صفحة التربية والتعليم بأن الصفحة كبيرة والأخبار تظل قليلة وأن الزملاء طلبوا أن يخصص لي زاوية باسم ” سطور تربوية ” , وفي حقيقة الأمر لم يكن علي أثقل من أن أوافق على هذا الأمر ؛ ولكن كان مقدراً أن أوافق , وقد هممت أن أعود لأعتذر فعظُمَ الاعتذار في نفسي , وقررت أن أمضي بالأمر مهما كلفني من مشقة لقد كنت أزيد من مسئولياتي فمنذ صلاة الفجر أتجه لوضع زوجتي في مدرستها كأول المعلمات اللواتي يدخلن المدرسة , ثم أتجه إلى مدرستي حسب جدولي اليومي ؛ وكم تكون معاناتي حين أبدأ أبحث داخل الأحياء عن مدرسة جديدة لم أزرها من قبل مع زحام الناس في الصباح أثناء انطلاقتهم للمدارس وأعمالهم , ثم إذا أنهيت زيارتي للمدرسة أُعيد زوجتي لمدرستها ثم أنطلق من جنوب الرياض إلى شماله حيث جامعة الملك سعود , ثم أظل بالجامعة حتى الساعة السابعة أو الثامنة المغرب , وبعد العشاء آخذ أهلي بجولة بالرياض أفرج عنهم بعض الضيق من وحدتهم , وبعد ساعتين أعود إلى مكتبتي وأظل فوق بحثي حتى الثانية صباحاً , كنتُ أستعمل إيحاءات نفسية فإذا هاجمني هواجس المتاعب قلت ” نم أربعاً فإن نمت خمساً فإن ذلك معناه الفشل ” كنتُ أدرك أن هذا فوق طاقتي لكن كان لابد من أن أستمر فعملي موجه تربوي ومتزوج غيور لا يؤمن بمبدأ السائق وطالب دراسات عليا في التاريخ والآن كاتب صحفي في زاوية أسبوعية بالتربية والتعليم , كنت أئن من التعب وكم كنتُ أقسو على نفسي , وقد أنجاني الله من حوادث مرورية كبيرة كان المتسبب بها هو الإرهاق وضيق الوقت لا غيرهما .
بدأتُ مهمتي الصحفية ؛ ووجدت فيها القدرة على التأثير والتغيير , وحاولت أن أترجم كل أفكاري من خلالها , وكان الميدان التربوي يعاني من الكثير من المشكلات فركزت في كتاباتي على مشكلتين , الأولى هي مشكلة تأسيس الطالب في مرحلته الأولية من خلال إعادة تأسيس المعلم والمنهج والخطة الدراسية ؛ والثانية : على سياسة التعليم بالمملكة ؛ نعم هي قوية ورصينة ومعبرة عن كل فكر أمتنا وبلدنا ووطننا ؛ ولكن فوجئت أن الكثير من التربويين لم يطلعوا عليها أو لم يفهموها أو على أقل تقدير هناك فارق بين السياسة والتطبيق .
فدعوت من خلال مقالاتي إلى حاجة الميدان إلى عقد لقاءات تربوية لقادة التربية والتعليم وكتبت مناشدات من خلال زاوية ” سطور تربوية ” وغيرها لوكيل الوزارة الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن الثنيان من أجل عقد مؤتمرات لمناقشة سياسة التعليم بالمملكة لفهمها وتعديل ما يلزم أو على الأقل مناقشة الفارق بين السياسة والتطبيق .
لن أستطيع أن أدعي أن الاستجابة كانت مباشرة فقد مضى عدة أشهر على مقالاتي في عام 1412هـ / 1992م ؛ حيث عقد أول لقاء تربوي بالوزارة في أوائل عام 1413هـ ؛ وفي العام التالي بدأت مع سياسة الوزير الجديد الخاصة به بإدارة الوزارة لقاءات سنوية لمديري التعليم بالمملكة .
د.صالح بن محمود السعدون
مدير عام التعليم السابق بمنطقة الجوف
عبدالاله الدهمشي
صباح الخير
مذكرات تستحق ان توثق بكل أمانه كي تستفيد منها الاجيال جعلها الله في ميزان حسناتك ونفعنا والمسلمين بها…
لكل جزيل الشكر وننتظر باقي المذكرات
**********************
وأنت أخي عبدالإله بوركت
فيكم الأمل بقيادة هذه الأمة إن شاء الله
أبوبكر