إدارة الاجتماعات لدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
إدارة الاجتماعات لدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
اتخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأولويات , فأمر ابن عباس رضي الله عنه أن يستدعي أولا أهل العلم (المهاجرين الأولين ) بما خزنوه في عقولهم المنيرة من علم ديني , فكانت المشورة فيهم . ثم ثنى بالأنصارإدارة الاجتماعات لدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
لد.صالح السعدون
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهما- : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَأَصْحَابُهُ ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَقَالَ عُمَرُ : ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ ، فَاخْتَلَفُوا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ ، فَقَالَ : ارْتَفِعُوا عَنِّي ، ثُمَّ قَالَ : ادْعُوا لِي الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ ، فَقَالَ : ارْتَفِعُوا عَنِّي ، ثُمَّ قَالَ : ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ ، فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ ، فَقَالُوا : نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ ، إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ : أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ ! فَقَالَ عُمَرُ : لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ : نَعَمْ ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ..”.
من هذا الحديث في البخاري يمكننا فهم طبيعة إدارة الاجتماعات لدى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقدراته الإدارية غير المحدودة , ويمكن تفصيل ذلك بما يلي :
1-أن عمر استخدم الاجتماعات الطارئة بناء على حدث مفاجئ , فقد كانت رحلته من المدينة المنورة وبمعيته كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضوان الله عنهم أجمعين , وفي موقع اسمه سرغ [: بفتح أوله وسكون ثانيه ثم غين معجمة سروغ الكرم قضبانه الرطبة الواحدة. وهو أول الحجاز وآخر الشام بين المغيثة وتبوك من منازل حاج الشام وهناك لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمراء الأجناد وبينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة. وقال مالك بن أنس: هي قرية بوادي تبوك وهي آخر عمل الحجاز الأول وهناك لقي عمر بن الخطاب من أخبره بطاعون الشام فرجع إلى المدينة هذا الكلام الذي أورده ياقوت في كتابه يلقي الضوء على حدود الشام قديماً . سرغ حاليا تسمى المُدَوَّرة وهي تقع في أقصى جنوب الأردن قرب الحدود السعودية على طريق تبوك].وفي سرغ توقف عمر لدى استقبال قادة الجيوش الإسلامية الفاتحة للشام له بين الحجاز والشام , ففوجئ بأمر جلل هو وقع وباء الطاعون بالشام مما يشكل أكبر خطورة على قيادات الإسلام السياسية والعسكرية والدينية , وهنا بدأ باجتماعات مكثفة هامة وجادة ومتخصصة .
2-أن تلك الاجتماعات اتخذت طابع الاجتماعات الطارئة بناء على حدث طارئ مفاجئ .
3-أن تلك الاجتماعات اتخذت طابعاً مميزاً بحيث أنها نحت منحى فرز اجتماعات القائد مع نوعيات معينة مختلفة عن بعضها البعض من نواحي متعددة , كطبيعة اختصاص بعضهم بالأمارة دون المسلمين (مشيخة قريش من مهاجرة الفتح) , واختصاص بعضهم بالوزارة دون غيرهم (الأنصار) , واختصاص بعضهم بالأمور العلمية دون غيرهم (المهاجرين الأولين) .
4-اتخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأولويات , فأمر ابن عباس رضي الله عنه أن يستدعي أولا أهل العلم (المهاجرين الأولين ) بما خزنوه في عقولهم المنيرة من علم ديني , فكانت المشورة فيهم . ثم ثنى بالأنصار وهم أهل مشورة ووزارة , ثم ثلث بأصحاب القرار من أهل الأمارة , كما لو يكون خادم الحرمين يبدأ المشورة بالعلماء , ثم يأخذ مشورة مجلس الشورى , ثم يتجه لمجلس الوزراء لاتخاذ القرار , وبهذا فقد انقسم العلماء , كما انقسم الشورى , ولكن اتفق أهل الأمارة من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح على قرار واحد .
5-هنا نجد أن ترتيب المشورة ذات أهمية كبرى إذ أن القرار الذي أخذ بالإجماع في آخر اجتماع , كان هو القرار الصحيح أيده فيما بعد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يعرفه المجتمعون بالاجتماع الثالث .
6-لننظر في كيف يستخدم القائد السياسي أو الإداري قراراته , فالاجتماع شبه مغلق , حيث يستدعي كل اجتماع بعيد عن الآخرين لكي لايؤثر صنف المجتمعين على صنف آخر , فاستدعى كل فرقة على حدة , وهو ما رفضته الثورة الفرنسية الشيطانية الماسونية , حيث كان هناك ثلاث غرف لكل صنف بالجمعية العامة بالملكية الفرنسية قاعة لممثلي العامة , وقاعة للنبلاء وقاعة لرجال الدين , ولأن الشيطان يرفض أسلوب الإسلام قامت الثورة الفرنسية ضد هذا التوجه وطالبوا بدمج الجميع في قاعة واحدة.
7-استخدم القائد السياسي لغة ديموقراطية عالية المستوى , فهو يطلب من مدير مكتبه (عبدالله بن عباس حيث قام بمايشبه دور مدير المكتب أو رئيس المراسم الملكية) أن يستدعي فئة أو صنف معين بقوله (أدع لي المهاجرين) (أدع لي الأنصار ) (أدع لي مشيخة قريش من مهاجرة الفتح) , كما أنه حين ينتهي الاجتماع , لم يستخدم لغة تقلل من احترام المجتمعين , كقول “قوموا عني” بل قال:” ارتفعوا عني ” فقد وضع نفسه بكل تواضع في منزلة الدون ووضعهم بموضع الارتفاع , وماهو أهم أنه كان يقدر الناس وينزلهم منازلهم , فأبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه هو ثالث ثلاثة رجال بعد أبي بكر وعمر رضوان الله عنهم , ولو كان حيا لكلفه عمر بالخلافة بالتزكية دون مشورة , فحين اعترض على ابي عبيدة على عمر وقال كلمة صاخبة بقوله أفرارا من قدر الله ؟” لم يقل عمر كلمة قاسية , وإنما وجه لوما متواضعا لأبي عبيدة ولينا ومحبا حين قال ” لو غيرك قالها يا أبا عبيدة,نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله , ثم توجه لأسلوب المعلم الذي يشرح لأبي عبيدة ماخفي عليه من أسباب اتخاذ القرار .
8-وضع دورا أساسياً رضي الله عنه لمدير مكتبه أو من يقوم بدور المراسم في ذلك الاجتماع , بحيث هو من ينسق الاجتماعات ويدعو الناس بناء على تصنيفاتهم .
8&-وأخيرا نجد أن اختيار رئيس المراسم في تلك المرحلة الحرجة كانت من أدق القرارات , فقد أشرف على على كل الأمور من جهة , ومن جهة اتصف هذا الرجل (عبدالله بن عباس بأنه عالم وحبر الأمة وباحث ومنقب ), فلديه المشورة والرأي والعلم والمعرفة , مما يستلزم الإداري أو السياسي أن يختار مدير مكتبه أو مدير المراسم كما اختار عمر عبدالله بن عباس في هذه الاجتماعات الطارئة .
د.صالح السعدون