سقوط دمشق .. بين مؤتمر السلام1919م و.. معركة ميسلون

الجزء الأول .. الصراع الدبلوماسي على سوريا
كانت اليهودية العالمية قد انقسمت قبيل الحرب العالمية الأولى إلى ثلاثة أجنحة , فظل اليمين الرأسمالي بقيادة روتشيلد يتحكم بالسياسة العالمية من خلال سيطرته على الإقتصاد والحكومات التابعة له في بريطانيا وأمريكا وفرنسا , واتجه الجناح اليساري الإشتراكي الشيوعي بقيادة لينين إلى شرق أوروبا متخذين من اسقاط الإمبراطورية القيصرية وإقامةوإقامة حكومة شيوعية عالمية هدفاً لها , بينما ظل الجناح الوسط وهم الصهيونيون القوميون ينافحون لاتخاذ وسط أوروبا مجالاً لعملهم وهدفهم مساعدة ألمانيا أولاً أو بريطانيا لتوطين اليهود من جديد في فلسطين .

في عام 1904م رأى هرتزل كما رأت بقية أجنحة اليهودية العالمية الأخرى أن حرباً عالمية ستخدم مخططات الأجنحة الثلاثة من أوجه متعددة , ولذا فإن وايزمان يعترف أنه منذ عام 1907م وحتى عام 1914م قد أعدوا كل ما يمكن أن يحتاجوه من مخططات أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى .

وحين دخلت الدول الكبرى الحرب تم خنق روسيا واسقاط حكومتها والقيصر , وبينما ترددت ألمانيا كثيراً في منح وعد لليهود بإعادتهم لفلسطين فقد أقدمت على ذلك بريطانيا في وعد بلفور عام 1917م , في حين كانت الدول المتحالفة ضد ألمانيا (بريطانيا وفرنسا ) قد أتمت محادثاتها عام 1916م في اتفاقية سايكس – بيكو لاقتسام ممتلكات الدولة العثمانية التي دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا , فأعطيت حسب الإتفاقية سوريا ولبنان لفرنسا وأعطيت الموصل وكركوك وبقية العراق وشرق نهر الأردن لبريطانيا في وقت وقعت بريطانيا مع الحسين بن علي أن تلك الممتلكات جزء من المملكة العربية الموعودة والتي أعلن الحسين الحرب ضد العثمانيين والإنضمام للحلفاء من أجل إقامة تلك المملكة الموحدة .

في نهاية عام 1918م/1336هـ زادت شكوك فرنسا تجاه السياسة البريطانية في بلاد الشام ورأى جورج بيكو الذي وصل إلى بيروت كمفوض سام لفرنسا في سوريا وارمينيا في 6 نوفمبر 1918م /1336هـ أن مكانة فرنسا في خطر بسبب طموحات العرب وأطماع بريطانيا إلا في حالة قيام فرنسا بتدخل عسكري , وفي منتصف شهر نوفمبر 1918م/1336هـ وجهت وزارة الخارجية البريطانية بالحاح من اللنبي وربما لورنس اللذان طالبا بضرورة احترام التأكيدات التي أعطيت إلى العرب ، وجهت دعوة للحسين بأنه من المرغوب فيه أن يطلب من الحلفاء رغبته بإرسال ممثل عنه إلى مؤتمر السلام , وقد ابرق الحسين إلى فيصل بالتوجه إلى بريطانيا وفرنسا , وكان لورنس قد أبرق للحسين أيضاً بمثل هذا الطلب في 10 نوفمبر 1918/1336هـ ،وكان فيصل قد دخل دمشق مع الجيش العربي مدينة دمشق بعد انسحاب الجيش العثماني شمالاً نحو الأناضول , حيث أتجه فيصل من دمشق إلى مرسيليا عن طريق بيروت ، وقد انزعجت فرنسا بشدة من هذه الزيارة وعاملوا فيصلاً كما نقول خـيرية قاسمية (( بين التهذيب والجفاء )) فمنحـوه الأوسمة وزار المواقع العسكرية ، ولكنـهم رفضوا منحه الفرصة في حديث سياسي حول المهمة التي جاء من أجلها, ولم يقابل رئيس الجمهورية إلا في 7 ديسمبر 1918م/1336هـ .

وصل فيصل إلى لندن في 10 ديسمبر، وأجرى – بعد استقبالات رسمية – محادثات رسمية مع بلفور وكما قال بلفور ، كان فيصل (( عنيفاً ضد فرنسا بقدر ما كان صريحاً مع بريطانيا )) وأبدى تفضيله لإدارة تركية سيئة على تسلط فرنسي أجنبي، كما ناقش رسالة كليمنصو إلى التايمز والتي طالب فيها بريطانيا عدم المساس بحقوق فرنسا في سوريا ، وذكر فيصل في رسالة لأبيه أنه طالب بلفور بتمزيق إتفاقية سايكس بيكو , وكانت بريطانيا قد وضعت في إستراتيجيتها أنه لا مناص من تعديل الاتفاقية مع فرنسا، وأن شمال العراق (الموصل)وفلسطين لهما أهمية قصوى في السياسة البريطانية ،فالموصل لابد من سلخها من النفوذ الفرنسي وإضافتها إلى العراق البريطاني. أما فلسطين فلابد من التخلص من الإدارة الدولية، وقال موريس هانكي أنه في 6 اكتوبر أتخذ لويد جورج قراره (( وأرادنا أن نتراجع عن اتفاقية سايكس – بيكو بحيث نحصل على فلسطين وندخل الموصل في المنطقة البريطانية)). وقال موريس هانكي إنه محبذ لوصاية أمريكية على فلسطين – كان لويد جورج قد اقترحها لأول مره – لكي تضمن بريطانيا إبعاد أي عدو محتمل عن فلسطين ، وأبلغ لويد جورج أنه يرغب أن تأخذ الولايات المتحدة فلسطين (( بهدف خلق دولة حاجزة لحماية مصر)). ولعل هذه الفكرة تكرار للفكرة التي كان قد كتبها لأول مرة الثري اليهودي روتشيلد للورد بالمرستون في مارس 1841م/1257هـ .

وقد ألمح اللورد روبرت سيسل للسفير الأمريكي بلندن أن فرنسا وبريطانيا متفقتان على تدويل فلسطين ، وأن ذلك يعني أن فلسطين تحتاج إلى دولة تحميها ، وأن أمريكا لابد أن تدعى لتولي هذه الحماية، قبل سقوط فلسطين في يد اللنبي .

وكان ارنولد توينبـي – وهو مؤرخ بريطاني كبير – والذي كان يعمل في دائرة الاستخبارات التابعة بوزارة الخارجية – آنذاك – قد أعد مذكرة عن مستقبل فلسطين في اكتـوبر 1918م قـال فيها (( نحــن متعهـدون للملك حسين أن هذه الأرض ستكون (( عربية )) و (( مستقلة )) وأكد أنه (( من المرغوب فيه أن فلسطين…يجب أن تكون اسمياً جزءاً من اتحاد عربي كونفدرالي…فإن إنشاء هذا الاتحاد هو من هذه الزاوية، مصلحة بريطانية … )).

على أن لويد جورج وقبل أسبوع واحد من وصول فيصل إلى لندن استقبل كليمنصو وفي الوقت الذي كانت فرنسا في حالة من التشنج والهجوم على سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط بحيث احتجت على زيارة فيصل دون أن يبلغ ممثلها بهذه الزيارة، وماطلت في استقبال الرئيس الفرنسي بوانكاريه لفيصل، كما كانت تنظر بارتياب إلى سياسة بريطانيا تجاه أطماعها بسوريا، فقد كانت السياسة البريطانية في الوقت نفسه تتجه إلى التصادم مع فرنسا حول الموصل وفلسطين وسورية .

وفي الأول من ديسمبر 1918م/1336هـ عقد الاجتماع الهام بين الزعيمين الفرنسي والبريطاني في لندن، وحسب ما قدم لمجلس الوزراء البريطاني من ملاحظات مكتوبة عن الاجتماع – بعد ثمانية أشهر من هذا الاجتماع -وحسب رواية بلفور الذي نقلها عن لويدجورج أنه قد أثير موضوع الشرق الأوسط فسأل كليمنصو عن التعديلات التي ترغب بريطانيا في إجرائها على المطالب الفرنسية فقال لويدجورج : (( الموصل )) فرد كليمنصو (( هي لكم ، هل من شيء آخر ؟ )) فأجاب لويد جورج (( فلسطين )) ومرة أخرى قال كلمنصو (( ستحصلون عليها )) .

لا يوجد أي دلائل على أن البريطانيين قد ابلغوا فيصل أو بحثوا معه بعمق مثل هذه الأمور ، غير وعود شفوية بتأييد العرب وأنهم سيخرجون من المؤتمر راضين وأن كان فيصل قد شعر أن بريطانيا لن تكون في حالة نزاع مع فرنسا حول سوريا من أجل العرب, غير أن الواقع كان أشد مرارة ففي الوقت الذي كان الحسين يظن أن الحلفاء لن يخذلوه ،

بل وبكثير من السذاجة السياسية يقول في رسالة منه إلى وينجت في 5 نوفمبر 1918م / 1336هـ ما نصـه (( تشـيرون يا سعـادة النـائب بـأنني سـأفتخـر بمآل القرار الذي سيأتي بشأن إتفاق الحلفاء العظام ، فيا عزيزي قد مَنَّ المولى على مخلصكم بفخره وسروره النهائي وهو إذلال أنور وطلعت وجمال وحزبهم وعموم الاتحاديين وانطراحهم بين أيدي صديقتي وهم صاغرون ، هذه هي غاية غاياتي وما سوى ذلك جميعه عندي على حد سواء ، وعلى كل حال فإن المنتظر من شهامة كمالاتكم ما هو فوق ذلك إن شاء الله )) .

ولسنا بحاجة إلى القول إلى أن هذا التصريح قد يضع أهداف الحسين وسياساته كلها في محل التساؤل, خاصة إذا تذكرنا نصيحة فيصل بن الحسين لوالده بعد أن كشف له جمال باشا في رسالته لفيصل عن اتفاقيات سايكس – بيكو ونصح فيصل والده بالتفاهم مع الأتراك، فجاء رد الحسـين (( نؤكد لكم بهذه بصورة قطعية لا تقبل التردد والمراجعة في رفض كل طلبات جمال في أي موضوع كان فإن رضائي وسخطي عليك وحـياة البلاد وسعادتها موقوفة على الرد هذا )) , بل يمكن أن نقارن بين التفكير السطحي في ظل سياسة شخصية وبين ما يجري في فرنسا وبريطانيا حيث تدور المحادثات بينها حول أربعة محاور أسماها الدكتور على سـلطان بـ (( المؤامرات )) وهي : 1/مصلحة بريطانيا الاستعمارية في فلسطين والعراق 2/مصلحة فرنسا الاستعمارية في سوريا، والتحولات الناجمة على مواقف كل منهما بعد الحرب 3/المصلحة القومية الصهيونية في فلسطين 4/مسألة فصل لبنان عن سوريا .

لقد كانت زيارة فيصل إلى فرنسا وبريطانيا بمثابة فشل سياسي كبير ، فرغم محاولاته اقناع والده بإرسال أخيه عبدالله بدلاً منه والتي تدل على مخاوفه المبكرة ، إلا أن الأخطاء التي وقع بها كسياسي لا يمتلك الخبرات الكافية لمواجهة ألاعيب السياسة العالمية ، إلى جانب المستشارين المحيطين به ، فقد كان إلى جانبه لورنس ونوري السعيد المعروف بصلاته الوطيدة بالسياسة البريطانية ، تلك الأخـطاء كانت قاتلة للمشـروع العربي ، وفي الوقت الذي كان هاجسه الأكبر هو إمكانية دخول الوفد العربي لمؤتمر الصلح حيث هدد بالعودة إلى دمشق إذا لم يتم الموافقة على طلبه فقد كانت فرنسـا ترفض ذلك، ولكن ضغـوط بريطـانيا تكللت بالنجاح لتبلغ فيصل أنها تمكنت من وضع مقعـدين للعرب في مؤتـمر الصلح بدلاً من مقعد واحد . ولا يمكن في الحقيقة أن ينتظر من فيصل الكثير في مواجهة ثلاثة قوى عالمية أكثر دهاء ومكراً وتجربة ، فضلاً عن القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية لكل منها وهي بريطانيا وفرنسا والصهيونية، ولكل منها مصالحها في المنطقة التي تتعارض كلياً مع المطالب العربية في الاستقلال والوحدة، لم يكن فيصل بالشخص المؤهل لمواجهة قوى عالمية في مؤتمر فرسـاي بين (( عمالقة السياسة الدولية وأعلام الدبلوماسية )) , وأمام هذا فلم يفشل في الدفاع عن القضية العربية فحسب، بل أنه وقع في (( أخطاء سياسية صارخة )) دفعت ثمنها الأمة العربية، فلم يكن –حسب مايري الخولي – يعرف شيئاً عن اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وإلى جانب ذلك كانت تعوزه الخبرة في السياسة الدولية مع نقص عميق في علوم التاريخ والقانون والعلاقات الدولية .

وفوق ذلك فقد بدأت بريطانيا التي تعرف الشرق جيداً في محاصرة فيصل ، وقام سايكس بتوجيه كلايتون حيال إعداد الوفد العربي الذي سيشترك في مؤتمر السلام, وقد أبلغ كلايتون سايكس أنه أصدر تعليماته إلى لورنس ضابط الاتصال البريطاني لدى فيصل بأن يقنع فيصل بأهمية قيام تحالف عربي يهودي , ولعل لورنس لمس مدى قدرته على إقناع فيصل وتمرير السياسات التي تريدها حكومته من خلاله ، لذا نجد لورنس يطلب في رسالة عاجلة إلى الملك حسين في 8 نوفمبر 1918م /1336هـ يقول فيها((..وأرسل لي الجنرال اللنبي برقية تفيد بأنكم ترغبون في إرسال مندوب إلى هناك، فإذا ما كان الأمر كذلك فإنني آمل بأن تكلفوا الأمير فيصـل بذلك، إذ أن انتصاراته …منحته سمعة شخصية في أوروبا )) , لقد كان لورنس كماوصـفه وايزمـان في مـذكراته ((كان على عكـس ما توهـم الناس ، من أخلص أصدقاء اليهود والعاملين على تسهيل استعمارهم لفلسطين …)) ,وربما كان تمسك لورنس بالزي العربي حتى في قصر باكنجهام الملكي , كان من قبيل (( استمرار التأثيرعلى فيصل لتنفيذ السياسـة البريطانية ..وخاصة في فلسـطين )) , ويقول عوني عبدالهـادي- وهو أحد أقرب المستشارين المرافقين لفيصل- أن (( لورنس لعب دوراً هاماً وأبدى كثيراً من الحنكة والدهاء .. كما لعب دوراً أهم في مساعدة الصهيونيين إذ كان يعطف عطفاً أكيداً على الصهيونية وأهدافها رغم كل ما قيل عن ميله للعرب … )) .

وتقول خيرية قاسمية أنه لا يعرف بالضبط ما الذي تم بين الأمير و وزارة الخارجية البريطانية والضغوط التي تعرض لها في لندن حتى تمكنت الحكومة البريطانية ممثلة بلورنس من إقناعه بعقد اتفاق في 3 يناير 1919م / 1337هـ مع زعماء الصهاينة يضمن التعاون بينهما في فلسطين .وربما أن العلاقات مع الشخصيات الصهيونية كانت في ذلك الوقت لا تشكل أي حرج لشخص الأمير فيصل إلى الدرجة التي عقد اجتماع علني بينه وبين زعماء يهود على وليمة أقامها اللورد روتشيلد على شرفه في لندن . ويتضح الأمر في تقرير اللجنة الملكية لفلسطين حيث يؤكد التقرير أنه (( حينما جاء الأمير فيصل إلى لندن وباريس لم يحمل على قبول السياسة التي ينطوي عليها تصريح بلفور فحسب بل على تحبيذها أيضاً …)), ولعل في رأي خيرية قاسمية الكثير من الموضوعية حيث ، لا يمكن أن يُعزى فشل فيصل فقط إلى (( جهله بالدبلوماسية والعلاقات أو سذاجته أو اعتماده على لورنس … أو رفض والده أن يمنحه سلطات كاملة .وعدم وجود أصدقاء له في أوروبا سوى البريطانيين ، لقد كان فشله لكون المطامع الفرنسية التقليديـة وإدعاءات بريطانيا لا يمـكن أن تلتقيـا إلا في إقتسام البلاد العربية )) .

في ظل هذه الأجواء الغامضة، لم يكن غريباً أن الجو السياسي في لندن كان قادراً على أن يبتلع الأمير العربي قليل الدراية بالأمور السياسية، أو كما يحب أورمسبي – غور أن يسميها (( المسائل الواسعة النطاق للسياسة العالمية التي تتأثر بها فلسطين )) , ومن التأثير المباشر للورنس على فيصل إلى الاجتماعات التي عقدها الصهاينة أمثال وايزمان وروتشيلد معه خلال مناسبات احتفالية وضغوط خفية ، تمكن الصهاينة ، من أخذ نصيحة بلفور لوايزمان من أنه من المرغوب فيه عقد اتفاق مع فيصل والوصول إلى تفاهم معه .

لذا ركز الصهاينة أهمية على ما يمكن أن يحصلوا عليه من فيصل ، في وقت كانت الحكومة والسياسيين في بريطانيا يقعون تحت ضغوط من قبل اليهود والصهيونية ، وقد عقدت لجنة الشرق الأوسط التي أسميت حينذاك باسم (( اللجنة الشرقية )) اجتماعاً هاماً في 5 ديسمبر 1918م/1336هـ وكان هذا الاجتماع من الأهمية بمكان وما دار فيه بما يوضح اتجاهات الحكومة البريطانية تجاه فلسطين والصهيونية ،فحسب محضر الاجتماع الذي حضره اللورد كورزون رئيس اللجنة وسمطس وبلفور واللورد روبرت سيسل والجنرال السير هنري ولسون رئيس اركان حرب الإمبراطورية وممثلون عن مختلف الوزارات ، وقد بدأ اللورد كورزون الاجتماع ببحث المسألة الفلسطينية مبيناً التعهدات الهامة التي أصدرتها الحكومة البريطانية وموجزها :

1/ التعهد العام للحسين في نوفمبر1915م /1333هـ والذي بموجبه تكون فلسطين مشمولة بالمناطق التي تعهدت بريطانيا أن تكون عربية ومستقلة في المستقبل .

2/ إلتزام بريطانيا وفرنسا وفيما بعد إيطاليا بإدارة دولية لفلسطين .

3/ في نوفمبر 1917م /1335هـ صدر تصريح بلفور، وبين أن الصهاينة انتهزوا الفرصة مشيراً إلى ما تكتبه جريدة (( فلسطين )) وتصريحاتهم ومنهاجهم الذي يتوسع يوماً بعد آخر حيث بدأوا يتحدثون عن دولة يهودية ثم قال (( أما القسم العربي من السكان فقد طواه النسيان والاتجاه هو إلى تجاهله تجاهلاً كلياً،وهم لا يطالبون بحدود فلسطين القديمة فحسب بل يدعون الامتداد عبر نهر الأردن .. )),وأضاف أن (( المنهاج الصهيوني والحيوية التي ترافق تنفيذه كان لابد لها من إثارة شكوك العرب الحادة .. وثمة شعور عند العرب بأننا فعلاً وراء الصهاينة ولسنا مع العرب)) وقال (( أتصور بأننا سنتفق على استعادة حدود فلسطين القديمة )) وانتقل إلى موضوع الإدارة في المستقبل أهي دولية أم أمريكية أم فرنسية أم بريطانية مبيناً أن عدداً من المجتمـعين (( أحس بميل ليستحث أمريكا أن تكون القيم على فلسطين )) .

وبعـد جدل بين الجنرال ولسون المحب للدور البريطاني وللورد روبرت سيسـل المحبذ لأمريكا – بما يشبه حوار طرشان كان على كل رجل أن يقول ما أملي عليه من مصادر يهودية هو تابع لها – قال سيسل (( نظراً لكون مهمتنا ستكون مجرد حفظ السلام بين العرب واليهود فلن نجني أي مكسب من وراء ذلك )) فتدخل الجنرال سمطس قائلاً أن هذا سيؤثر في الرأي العام القومي اليهودي وأضاف (( وقومياً اليهود شعب عظيم )) فرد سيسل أنه (( يرجح أنهم سيتنازعون مع الدولة التي تمارس الحماية )) فرفض الجنرال ولسون الفكرة،فقال مدير الاستخبارات العسكرية الجنرال ماكونوت (( أنا أرى أن أهم اعتبار عند درس وضع فلسطين …كما يقول بلفور ، وطن الشعب اليهودي ولذلك تهم جميع اليهود في العالم كله ، أنني اقابل العديد من الصهاينة وأحدهم اقترح علي أول أمس ، إنه إذا لم يحصل اليهود على ما يبتغون في فلسطين فسنجد مجموع اليهود ينقلبون بلاشفة ويدعمون البلشفية في سائر البلدان كما فعلوا في روسيا ))فرد اللورد روبرت سيسـل (( أجل أستطيع أن أتصـور آل روتشـيلد يقودون جماهير من البلاشفة ..)) .

في الوقت الذي كان الخوف من مصير روسيا يسيطر على أعضاء الحكومة البريطانية من آل روتشيلد والصهيونية واليهود ،فإن آل روتشيلد ووايزمان قد مضوا في ضغوطهم وابتزازهم للأمير فيصل حيث انتـزعوا منه تصريحاً في منتهى الخطورة أدلى به للوكالة اليهودية المعروفة وكالة رويتر للأنباء والذي إذاعته في 12 ديسمبر 1918م /1336هـ عبر فيه عن أمله في أن تحقق كل من الأمتين العربية واليهودية أمانيها وآمالها، ونفى أن يكون العرب يحملون أي حقد على الصهاينة اليهود ,وعزا ما كان يحدث بين المستعمرات اليهودية والقرى العربية إلى الفتن التي يثيرها الأتراك, وقال (( أن الصهيونيين هم حملة حضـارة أوروبا إلى الشرق )) , وتواصلت الإجتماعات خلال شهر ديسمبر من عام 1918م/1336هـ بين فيصل ووايزمان ، إلى جانب اجتماعات اللجنة الشرقية التي هي في مجملها تدور حول رغبات الصهيونية رغم الميول الواضحة لرئيسها اللورد كورزون الذي يعارض فيها أطماع الصهيونية من خلال تعريضه بها وأن لم يـجاهر بمعارضتـه, فقد اجتمعت اللجنة الشرقية في 16 ديسمبر1918م/1336هـ واتخذت قرارات هامة لتكون أمام الحكومة لتقديمها إلى مؤتمر السلام قررت اللجنة معارضتها لإقامة (( إدارة دولية في فلسطين )) , وهو أمر يعارضه الصهاينة أصلاً، كما قررت تأييدها أن يقرر مؤتمر السلام أو عصبة الأمم تسمية دولة عظمى تتصرف كممثل عن الأمم في فلسطين على ألا تكون (( فرنسا أو إيطاليا ))، وإنما أمريكا أو بريطانيا فقط وهي هنا تعني ألا تكون الدولة كاثوليكية وإنما بروتستانتية، وهو ما يراه الصهاينة الذين يميلون تحديداً إلى بريطانيا، كما قررت عدم الاعتراض على أمريكا غير أنه إذا عرض على بريطانيا أن تكون الدولة الحامية على فلسطين (( فعلينا أن لا نعتذر عنه )) , وأن هذا الاختيار للدولة يجب أن يراعي رغبة السكان العرب والصهاينة في فلسطين ، وقررت اللجنة أنه (( يتوجب )) في مؤتمر السلام (( تأمين تصحيح عادل لحدود فلسطين )) من جهاتها الأربع وركزت على أن التعهدات بخصوص العناية بالأماكن المقدسة يجب أن يكون موضع (( التطبيق الفعال )) .

وإذ قررت اللجنة الشرقية إتجاه السياسة البريطانية التي يجب أن تتبع في مؤتمر السلام ،فكان من المهم إجراء تعديل ملائم في الموقف العربي حيث وضعت صيغة اتفاقية أسمـيت بـ (( اتفاقية فيصل – وايزمان )) ، استحضرت الاتفاقية وشائح القربى العربية اليهودية ونصت مواد الاتفاقية على وجوب أن تسود العلاقات بين الطرفين (( أقصى النوايا الحسنه والتفاهم المخلص )) وأرجئت مسألة تحديد الحدود النهائية بين الدولة العربية وفلسطين إلى ما بعد مؤتمر السلام،وسمحت وشجعت الاتفاقية الهجرة اليهودية إلى فلسطين ((بأقصىما يمكن من السرعة )) وتطرقت المواد الأخرى إلى حماية وحرية الأماكن المقدسة والأمور الاقتصادية وأن يعملا خلال مؤتمر الصلح (( بالاتفاق والتفاهم التامين في جميع الأمور التي شملتها الاتفاقية )) , وأن الحكومة البريطانية هي الجهة التي تحكم بين الطرفين في حالة النزاع ، وتم توقيعها في 3يناير 1919م/1337هـ رغم محاولات عوني عبدالهادي طرح بعض التساؤلات عن أطماع اليهود بإنشاء دولة يهودية .

وقد أبرق وايزمان مستغلاً القنوات الرسمية لوزارة الخارجية البريطانية إلى د. أدير الذي يرأس البعثة الصهيونية نيابة عنه قائلاً : (( عقد وايزمـان مع فيصل مقابلة ناجحة جداً , ووجد فيصل نفسه متفقاً كلياً مع مقترحاتنا، وكان واثقاً بإمكانه أن يوضح للعرب فوائد قيام فلسطين اليهودية للبلاد وبالتالي لأنفسهم ، وأكد لوايزمان أنه لن يألوا جهداً في دعم المطالب اليهودية في مؤتمر السلام حيث سيعلن أن الصهيونية والحركة العربية هما حركات متزاملة وأن انسجاماً تاماً يسود بينهما )) .

لقد نجح الصهيونيون مع فيصل ، وأن استدرك فيصل متحفظاً بأن ربط موافقته على الاتفاقية بموافقة الحلفاء في مؤتمر الصلح على استقلال العرب حسب المذكرة التي قدمها لوزارة الخارجية البريطانية في 4 ديسمبر 1919م /1337هـ ((ولكن إذا وقع تحويل فيجب ألا أكون عندها مقيداً بأي كلمة وردت في هذه الاتفاقية التي يجب إعتبارها ملغاة لا شأن ولا قيمة قانونية لها ويجب أن لا أكون مسئولاً بأية طريقة مهما كانت )).

ويلاحظ أن الاتفاقية نصت على أن فيصل ممثل مملكة الحجاز، فهو حسب الاتفاقية غير معترف به للتحدث باسم البلاد العربية في بلاد الشام والعراق والأقاليم الأخرى، ونصت الاتفاقية على كلمة (( الشعب اليهودي )) حيث حققت للصهاينة ما يطمحون له من اعتراف بهم كشعب كما أنها اقتطعت فلسطين من الدولة العربية وكما يقول الخولي (( أن هذه الاتفاقية لم تعصف بمبدأ الوحدة فحسب ولم تخرج على قرارات المؤتمرات الوطنية العربية في سوريا وفلسطين .. بل أنها اعترفت بكيان فلسطيني يشتم .. أن هذا الكيان .. هو نواة الوطن القومي المرتجي ))لليهود ، وأن الحدود سيتفق عليها فيما بعد إلى جانب اعتراف صريح (( بوعد بلفور )) وحق اليهود في الهجرة ، ويرى محمد حسنين هيكل أنه لم يكن هناك جدوى من التحفظ الذي ابداه فيصل لأن هذه الاتفاقية اعترف فيصل من خلالها بفلسطين كدولة لليهود وإن كان بعض المؤرخين يحاول التقليل من الأضرار التي أحدثها فيصل في القضية العربية بشكل عام وفلسطين بشكل خاص ، حيث يرى البعض أن فيصل رأى في اتفاقه مع وايزمان (( يمنحه ميزات كبيرة في صراعه مع فرنسا بشأن سـورية )) أو ربما

أن فيصـل رأى بإيعـاز من وايزمان أو لورنس أنـه إذا ما توصـل إلى مثل هذا التفاهم مع الصهاينة فسيوحدون جهودهم للحد من أطماع فرنسا في سوريا وقد أخبر فيصل الصحفي جيفرزمن أن هوجارث ووايزمان ولورنس قد أكدوا له عدم عزم اليهود علىإقامة دولة مستقلة في فلسطين، لقد لعب لورنس دوراً خطيراً في خداع فيصل من أجل أن يوقع هذه الاتفاقية .

والحقيقة أن الاتفاقية قد حققت الجانب الدعائي لوايزمان فقط ، أما من الناحية القانونية فإن التحفظ الذي كتبه فيصل إلى جانب أن فيصل وافق عليها بشكل شخصي حيث أنه غيرمخول لعقد مثل هذا الاتفاق من قبل والده أو من قبل العرب، إلى جانب أن الشرط الخاص بارتباط مسئوليته عن الاتفاقية باستقلال البلاد العربية حسب مذكرته في 4 ديسمبر التي قدمها للخارجية البريطانية،كل هذه الأمور تجعل الاتفاقية عديمة القيمة ،الى جانب ان فيصل ربط الاعتراف بدولة يهودية بفلسطين بقيام دولة عربية واسعة الحدود وهو امر مستحيل تنفيذه, ما عدا اعترافه الشخصي بالصهيونية وبفلسطين دولة لليهود .

وكانت الصهيونية تعمل على كافة الأصعدة، ففي الوقت الذي كان وايزمان في لندن يواصل جهوده كانت البعثة الصهيونية قد اخذت موافقة السلطة العسكرية البريطانية في فلسطين في ديسمبر 1918م بعقد مؤتمر في يافا، وقد عقد المؤتمـر وأعـلن اعتبار فلسطين (( وطناً قومياً يهودياً، وأن يكون للشعب اليهودي بكامله الصوت الخاص في تقرير شئونه )) وقد وافق المؤتمر على أن العلم الصهيوني هو الشعار القومي، واستبدال كلمة فلسطين بكلمة إسرائيل ووضع خطة طويلة لاستلام السلطة في البلاد .

مؤتمر السلام في فرساي والوطن القومي اليهودي :

منذ أن توقفت الحرب بدأ المنتصرون يقتسمون الغنائم أو بالأحرى بدأ التنافس بين حلفاء الأمس على غنائم واسلاب المنهزمين ، غير أن العرب الذين ساهموا بالحرب بفعالية وسجلوا أعظم أسهم النجاح في الحرب – إلى الدرجة التي قال فيها جمال باشا أن الإنجليز لم يفكروا في غزو فلسطين إلا بعد أن ضمنوا ثورة العرب – , و اعترفوا به حليفاً يحق له كقوة محاربة المشاركة في مؤتمر السلام ، كان أحد هذه الغنائم والأسلاب التي إقتسمها بقية الحلفاء ،ليس لشيء إلا لأن هذا الحليف لا يحق له أن يكون على قدم المساواة مع الآخرين، وهو مايؤكده لورنس في يومياته من أن بعض أعضاء مؤتمر فرساي من يرى أن العرب أمة ليست مؤهلة لحضور المؤتمر .

بدأت بريطانيا وفرنسا واليهود ينضمون أنفسهم حول تقسيم الشرق الأوسط فيما بينهم، وفي رسالة إلى زوجته في أمريكا يقول بن غوريون أنه في شهر ديسمبر 1918/1336هـ قامت الصهيونية بفلسطين بافتتاح مؤتمر تحضيري ، كان أهم المشكلات التي يناقشها المؤتمر هو كيفية صياغة مطالبنا القومية في مؤتمر السلام بباريس ، وهكذا تشكل وفد الصهيونية برئاسة وايزمان وسوكولوف وزملائهم في أوروبا وأمريكا كما بدأ كليمنصو وبيشون ، ولويد جورج وبلفور يعدون العدة للمعركة الدبلوماسية الكبرى في مؤتمر السلام بعد أن صمتت المعركة العسكرية وأصوات المدافع .

وفي 18 يناير 1919م/ 1337هـ افتتح مؤتمر السلام رسمياً،وفق منطق من التعالي من قبل الدول الكبرى، إذ عزلت الدول الصغيرة جانباً،والتي بلغت 27 دولة ( أمة ) كلها آزرت الحلفاء بالحرب وأصبحت القرارات بيد ما سمي بمجلس العشرة حيث يمثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان,ويمثل كل دولة عدا اليابان رئيس الدولة أو رئيس الوزراء إلى جانب وزير الخارجية، ثم أنقسم فيما بعـد إلى مجلسين الأول / مجلـس الأربعـة الكبـار ولسـون ولويد جورج وكليمنصو وأورلاندو الذين قرروا الاجتماع في كل يوم مرتين ,واللافت للنظر أن موريس هانكي الذي كان يعمل سكرتيراً لمجلس الوزراء الحربي البريطاني عمل كسكرتير للرؤساء الأربعة، وقام مجلس الأربعة بحل المشكلات ومختلف المسائل كل على حده معطياً شيئاً من الاهتمام لتقاريراللجان بيد أن القرار الأخير في الغالب كان يتخذ على شكل حلول جديدة، والثاني / لوزراء الخارجية. وقد اتخذت القرارات الكبرى من قبل مجلس الأربعة قبل أن تعرض على وفود الأمم المختلفة التي لم يسمح لها بالاعتراض أو يكون لها سلطة لتقرير أو إبداء رأي إذا تناقضت مع مصالح هذه الدول الأربع الكبرى .

كانت فرنسا تتعامل بتصلب في كل مايتعلق بالقضية العربية أو فيصل الذي جاء يمثلها في المؤتمر وقبل افتتاح المؤتمر زار فيصل في باريس ( جين غو Gout ) الأمين العام لوزارة الخارجية الفرنسية، والذي تعمد أن يقول لفيصل كلاماً قصد أن يكون مهيناً حيث ذكر له أن عدم اهتمام فرنسا له لم يكن نسياناً وإنما تجاهلاً متعمداً،حيث أنه في نظرها لا يتعدى أن يكون سائح ، وأن فرنسا لا تعترف بالتأكيدات التي أعطاها له اللنبي بدمشق، ووصفه بأنه دمية للإنجليز وبتهديد مبطن ذكر أن فرنسا دولة قوية ، وأن فيصل كلما أصم أذنيه عن بريطانيا ودسائسها ضد فرنسا في سوريا والعراق كان ذلك خيراً له ، وأن فرنسا تأسف لأنها لا تستطيع أن تعطي للعرب أية مقاعد في مؤتمر فرساي ( Versaille ). ورد عليه فيصل رداً قوياً قائلاً أن العرب لم يحاربوا الأتـراك لكي تقسم بلادهـم وأنه لا يخاف قـوة فرنسا أو بطشها (( وإنني عدو لمن يخالف سياستنا الوطنية ويعارضها .. أكان ذلك المعارض إنجليزياً أو فرنسياً )), وأبلغ لورنس لويد جورج بهذه المقابلة وتمكن الأخير من خلال نقاش حاد مع كليمنصو وبيشون في 17 يناير 1919م/1337هـ أن يقنع فرنسا بتمثيل العـرب بممـثلين في المؤتمر .

دخلت بريطانيا وفرنسـا المؤتمـر بقليل من التفاهم حيال الخطـوط العـامة لمصالحهما المشتركة في المشرق العربي وأن ظلت خلافات عميقة في جوانب كثيرة بين الطرفين في التفاصيل .

وفي وسط رفض الفرنسيين ولا مبالاة البريطانيين لم يدع ممثلي العرب لحضور الجلسة الأولى في المؤتمر، ويبدو أن الموقف البريطاني قد انكشف بشكل سافر إلى الدرجة أن صرح لورنس لجريدة التايمز تصريحاً – لم تنشر جزءاً منه – (( أن حكومته جعلته يؤمن بأنها سوف تفي بوعودها إلى العرب، وأنه بناء على إيمانه هذا فقد شجع العرب ، والآن هو راغب في القول للعرب وللبريطانيين بأنه نادم على ما فعله لأن بريطانيا لا تنوي أن تفي بالوعود التي خولته بتقديمها للعرب )) .

وفي الوقت الذي انشغل المؤتمر في قضايا أخرى غير القضية العربية في الأسبوعين الأولين من افتتاح المؤتمر، إلا أن الدوائر السياسية البريطانية والفرنسية لم يكن لها هم أكبر من الصراع على سوريا، ورأت الدبلوماسية الفرنسية مدى التناقض بين أطماع بريطانيا وطموحات فيصل كما لاحظ الفرنسيون المواقف التي اتخذها فيصل حيال العراق وفلسطين وقال أحد الدبلوماسيين الفرنسيين (( أن أسوأ لعبة نستطيع أن نلعبها على الإنجليز – لولا أننا نخاف أن ندمر أنفسنا – هي بلا شك أن نشجع وجود الدولة السورية كما يتصورها فيصل وأصدقاؤه، وأن نحاول منعها من الوقوع في الفوضى وأن نحميها من كل تدخل أجنبي وستكون موئلاً تتجه إليه أنظار أوساط مضطربة كأوساط مصر أو حتى أوساط ما بين النهرين التي لا تبدي أي ميل للسيطرة البريطانية )) .ويبدو أن هذه القراءة لم تكن مستعصية على فهم الدبلوماسية البريطانية، إذ أن المشكلة التي حدثت حين أقترح ولسون ايفاد لجنة للبلاد العربية قد أوقعت مخططات فرنسا وبريطانيا في موقف حرج .

لذا فقد ظلت المفاوضات الثنائية للتفاهم حول القضية العربية وبالأخص (( سوريا )) مستمرة خارج كواليس المؤتمر، وكان اليوم التاسع والعشرين من يناير 1919م/1337هـ هو اليوم الذي قدم فيه فيصل مذكرته الثانية للمؤتمر، حـيث قدمـت المذكـرة الأولى التي طالبت بأمة عربية واحدة قبل إفتتاح المؤتمر، وطالب في المـذكرة الثانية باستقلال البلاد العربية في آسيا من خط الاسكندرونة – ديار بكر حتى المحيط الهندي جنوباً ( أي بحر العرب ) وأن يكون هذا الاستقلال والسيادة (( بضمان من عصبة الأمم )) .ويلاحظ أن التركيز في هذه المذكرة على الاستقلال أكثر من الوحدة وأنه أخرج الحجاز كمملكة مستقلة وعدن المحمية البريطانية من هذه الـ (( دول جديدة )) التي تنشأ (( حسب الحاجة )) .

لقد خشي الفرنسيون والبريطانيون من مطالب العرب، إلى جانب مخاوفهم من مقترحات أخرى قدمها(( قسم الاستخبارات)) لوفد الولايات المتحدة على شكل (( توصية )) في 21 يناير 1919م / 1337 هـ ورفعت إلى الرئيس ولسون تنص على:

1) إنشاء دولة سورية .

2) يطبق عليها نظام الانتداب دون تحديد أسم الدولة.

3 ) عدم وضع أية عراقيل يمكن أن تحول دون دخول هذه الدولة السورية المقترحة في اتحاد عربي كونفيدرالي في حالة رغبة البلاد في ذلك .

فتحرك الفرنسيون لإنجاز دراسة الأفكار التي توصل إليها لويد جورج وكليمنصو في لندن حول تنازل فرنسا عن الموصل وفلسطين لبريطانيا ، وفي نفس اليوم الذي تقرران يخاطب فيصل المؤتمر 6 فبراير 1919م/1337هـ قدمت الحكومة الفرنسية للحكومة البريطانية مشروع اتفاق حول النقاط لمذكورة وكما يقول مصطفى كريم (( وقد أخذت فرنسا بعين الاعتبار معطيات الموقف وجو المؤتمر )) فتقدمت بشكل ينبئ عن أنها تريد أن تصل إلى اتفاق فتنازلت عن الموصل وأرجعت الحدود الشرقية لسوريا إلى حوض الخابور . إلى جانب التنازل عن فلسطين متضمنة حيفا وقد أنقصت كثيراً من المنطقة الفرنسية حسب اتفاق سايكس- بيكو، واشترط المشروع مقابل ذلك دعماً مؤكداً في مؤتمر السلام للمطالب الفرنسية بخصوص سوريا وكليكية وإبلاغ الأمير فيصل بوضوح تام بأن عليه التفاهم بصدد سوريا مباشرة مع الحكومة الفرنسية وألا يعتمد في مناهضة فرنسا على دعم بريطانيا ،وإلى جانب ذلك قطع المعونات المخصصة لدعم فيصل وحكومته العربية لتحل فرنسا محلها ،والقبول والتنفيذ الفوري لقرار الخبراء العسكريين في مجلس فرساي بخصوص توزيع الاحتلال العسكري في الأراضي المحتلة من الدولة العثمانية،أي تسليم سوريا وكليكية لاحتلال القوات الفرنسية. ولم يكن لدى قادة وشخصيات الأمة العربية خبرة في الشئون الدولية خلال أربعمائة عام تولى هذه المهمة موظفو الحكومة العثمانية التي يعيش العرب في ظلها ، وبالتالي فلم يكن ثمة خبرة دبلوماسية للتعامل مع المؤتمرات الدولية ، كما لم يكن هناك ثمة رجال دولة يمتلكون خبرة للدبلوماسية الحديثة . رغم ان الأمة تمتلك كفاءات عالية الا انها بعيدة على الأقل عن مصادر القرار فكانت أزمة فيصل كبيرة وهو يتعامل مع مستقبل أمته مع تواضع قدراته العلمية والثقافية والسياسية والدبلوماسية والقانونية .ومنذ أن وصل باريس ، وجد نفسه في مواجهة ثلاثة عقبات كبرى تتحطم عليها آمال العرب وهي :

1/ المصالح الاستعمارية البريطانية في العراق وفلسطين .

2/ المصالح الاستعمارية الفرنسية في سوريا .

3/ المصالح والأطماع الصهيونية في فلسطين .

وأمام تضاؤل الآمال وتعاظم الإحباطات، فيما يبدو، جعلت فيصل يعتمد على لورانس الذي كان إلى جانب عمله مترجماً يكتب خطبه ومذكراته ويصيغها بالشكل الذي لا يخدم قضية فيصل. فحين تكلم فيصل أمام المؤتمر فإن خطابه قد احتوى على عبارات ربما كتبت بتأثير لورنس ،ومن هذه العبارات ما قاله فيصل من أن (( في فلسطين العرب هم الأكثرية الغامرة ، واليهود قريبوا النسب جداً من العرب .. نحن في المبادئ متفقون ، غير أني أفكر أن العرب لا يستطيعون اتخاذ المسئولية على عاتقهم في حفظ التوازن بين الشعوب والأديان المتصادمة في هذه الولاية ، التي كثيراً ما جرت الصعوبات على العالم … وهم يريدون وصياً عظيماً ذا مركز نافذ…)) , وبهذا فقد طالب فيصل بالإستقلال للبلدان العربية مستثنياً من ذلك فلسطين , وهو ما يعني أنه قد ساهم بنفسه في هدم دولته السورية التي بدأ المؤتمر السوري العام يؤطرها .

وفي هذا الوقت أو قبله بقليل تمكن لورنس من إقناعه أو لعل جو المؤتمر والضغوط الفرنسية والبريطانية ولدت لدى فيصل قناعات جديدة ، جعلته ينظر إلى أن الوحدة العربية العامة بين جزيرة العرب والعراق والشام أمر صعب المنال ، ولأول مرة تولد لديه بوضوح فكرة ” دولة سورية ” حيث ظهرت لأول مرة في المـذكرة الأولى والمذكرة الثانية إلى جانب عرضها في الكلمة التي قـدم بها القضية العربية أمام المؤتمر في 6 فبراير 1919م /1337هـ ,كما أنه لم يكتف بالمطالبة بإقامة دولة سورية منفصـلة عن الدولة العـربية متخلياً عن توجـيهات والده وأفكار الجمعيات العربية الثورية ( العربية الفتاة ) – بصفته عضواً فيها – عرض الحائط فحسب، بل إنه ربما رأى أن الصهيونية لا تشكل خطراً على وحدة العرب فتنازل طواعية في خلق الوطن القومي اليهودي في فلسطين وبعد الخطاب دار نقاش إذ سأل ولسون فيصل إذا كان يرغب في انتداب أو أكثر فقال (( إن هذا من شأن والدي أما أنا فقد جئت لأمثل والدي بالاستقلال والوحدة )) وندد باتفاقية سايكس – بيكو وطالب بتحقيق رغبات الشعوب المعنية .

كان المؤتمر قبل أسبوع من إلقاء فيصل لكلمته أمام المؤتمر قد أتخذ قراراً في 30 يناير 1919م /1337هـ حول (( وجوب فصل سوريا فصلاً تاماً عن الإمبراطورية العثمانية )) ووجوب فصل أرمينيا والعراق وفلسطين والجزيرة العربية عنها ، ولا يبدو أن فيصلاً كان يمتاز بأية مهارة دبلوماسية فهو لم يرتب أية احتجاجات في البلاد السورية أو شكاوي أو وفود لمؤتمر السلام كما فعلت أمريكا وفرنسا بل لم يستغل برقية الاحتجاج من قبل المؤتمر العربي الفلسطيني الأول إلى مؤتمر السلام ضد جعل فلسطين وطناً قومياً لليهود في 3 فبراير 1919م / 1337هـ .

واصل المؤتمر مناقشة القضية العربية وفي 13 فبراير بحثت قضية سوريا قبل انعقاد مجلس العشره الكبار، وكان البحث في مكتب وزير الخارجية الفرنسية بيشون Pichon وقدم رئيس الكلية الإنجليزية في بيروت هوارد بلس Blissليدلي برأيه حول القضية ، وقد جاء بدعوة من وزارة الخارجية الأمريكية بوصفه خبيراً بشئون سوريا ولبنان ، وقرأ بيانه أمام المؤتمر التمس فيه إرسال (( لجنة حيادية مختلطة تمثل الحلفاء إلى سوريا )) وأخذ رأي الأهالي مباشرة حول نوع الحكم الذي يريدوه أو الدولة الحامية إذا شاؤوا ذلك ، كما أعـدت وزارة الخارجـية الفرنسية وفد قيل أنه سوري يرأسه ( شكري غانم ) مؤسس (اللجنة السورية المركزية ) ألقى شكري بيانه خلال ساعتين ونصف( إلقاءوترجمة) رفض فيه أن تكون سوريا وأهلها ((الحضر )) تحت الحجاز (( البدو )) وأن المسافة التي بين مكة ودمشق حوالي 1500كم فأي صلات روحية أو تقارب فكري بين السوري والحجازي ، وقال إن سوريا تشعر بالحاجة إلى العون الأجنبي محددا هذه الدولة بأنها فرنسا (( هي الدولة الوحيدة المؤهلة لإنجاز ما نصبو إليه )) يقول أحد الحاضرين لهذه الجلسة (( إن خطبة السيد غانم أبطلت مفعولها بنفسها قبل إنتهاء تلك الجلسة ))لقد أوقع نفسه في تناقض فهو يريد الانفصال عن مكة للمسافة التي بينها وبين دمشق رغم لغتها العربية ، ويريد وصاية فرنسا وهي أبعد من الحجاز ولغتها لم تكن العربية . ولعله لا يختلف عن الدور الذي يقوم به جعجع وجنبلاط وسعد الحريري وسكرتيره السنيوره حالياً.

بعد

1٬566

الكاتب د.صالح السعدون

د.صالح السعدون

د.صالح السعدون مؤرخ وشاعر وأكاديمي / لدينا مدرسة للتحليل السياسي غير مألوفة..

مواضيع متعلقة

تعليق واحد على “سقوط دمشق .. بين مؤتمر السلام1919م و.. معركة ميسلون”

  1. [url]http://www.top3rab.com[ll]توب عرب[/url]
    [url]hhttp://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=27[ll]عالم حواء للطبخ[/url]
    [url]hhttp://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=27[ll]عالم حواء[/url]
    [url]hhttp://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=27[ll]حواء[/url]
    [url]hhttp://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=27[ll]عالم حواء للديكور[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=14[ll]غرائب وعجائب[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=14[ll]صور غرائب وعجائب الدنيا[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=14[ll]غرائب وعجائب بالصور[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=14[ll]غرائب وعجائب الصور[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=14[ll]غرائب وعجائب الدنيا[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=12[ll]افلام وثائقية[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=12[ll]افلام[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=12[ll]افلام وثائقية مترجمة[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=1285[ll]صور[/url]
    [url]www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=9[ll]البرامج المجانية[/url]
    [url]www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=9[ll]تحميل البرامج[/url]
    [url]www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=9[ll]تنزيل البرامج[/url]
    [url]www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=9[ll]البرامج المعربة[/url]
    [url]www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=9[ll]برامج[/url]
    [url]www.top3rab.com/forumdisplay.php?f=9[ll]صور[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=1819[ll]تنزيل العاب سيارات[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=1819[ll]العاب سيارات[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=2244[ll]صور مضحكة[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=2244[ll]صور مضحكة جدا[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=2246[ll]صور سيارات[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=2246[ll]صور السيارات[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=2275[ll]صور انمي[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=2275[ll]صور أنمي[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=2275[ll]صور كرتون[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=2257[ll]صور رومانسيه[/url]
    [url]http://www.top3rab.com/showthread.php?t=2257[ll]صور رومانسية[/url]

التعليقات مغلقة