مذكرات مدير عام سابق للتربية والتعليم 4/13
تدريب مبكر لمعركة الحياة .. تجارب ودروس وعبر
آلام وآمال , تصنع قدر الإنسان , فالطموح يُحفز … والظلم يحاول أن يُعيق المسيرة , وبين الآم الظلم .. وآمال النجاح ..يسطِّر الإنسان قدره بما يوفقه الله إليه
د. صالح السعدون
وأخيراً بدأت التدريب والاستعداد لمعركة الحياة /
في حقيقة الأمر لم يكن العمل يخلو من المنغصات فبعد فصل دراسي واحد طلبت من رؤسائي الموافقة على الدراسات العليا ( الماجستير ) نصحت كثيراً أن أحصر دراستي في الدراسات التربوية ؛ كان لدي تحسساً من وزارة المعارف ؛ قلت لن أضع بيضي كله في سلة هذه الوزارة ؛ أريد دراسة التاريخ فلو ضاقت بي أو ضقت بها سأجد إلى الجامعة أو السلك الدبلوماسي طريقاً آخر فلا أكون تحت رحمتها أبداً فهذه الوزارة أصدق ما يقال عنها أنها ” آكلة لأبنائها ” ؛ كان هذا الرأي توفيقاً من الله , قالوا مع الأسف صدر قرار مع بداية هذا العام أن الدراسات العليا يجب أن تنحصر في العلوم التربوية التي تستفيد منها الوزارة ؛ كنت مستعداً للتخلي عن الماجستير لكنني لست مستعداً أن أدرس الماجستير في غير تخصص التاريخ , أكثرت الدعاء ثم قابلت الدكتور محمد سعد العصيمي مدير عام التوجيه التربوي والتدريب , وبينت له رجائي ووافق جزاه الله خيراً على دراستي الماجستير بتخصص التاريخ ؛ ولكن تضمن القرار فقرة كان نصها أن الوزارة توافق على (( دراستي لبرنامج الماجستير في التاريخ على ألا يؤثر على عملي …الخ )) قدمت الخطاب لقسم التاريخ ولكن فاجأني الدكتور عبدالله الصالح العثيمين المسئول عن الدراسات العليا بالقسم قائلاً : يا أخي ارجع لوزارتك وقلها قسم التاريخ يقول ما هو انتي اللي تشترطين على القسم , تبغى تعطيك موافقة غير مشروطة أهلاً وسهلاً .
عدت إلى الدكتور العصيمي واعتذر قائلاً هذا نص لابد من وضعه لك ولغيرك ومستحيل نغيره , فعدت محبطاً ولكني لم تزدني المشكلة إلا إصراراً على سهام الليل ؛ فبعد ثلاث ليال زارني واحداً من أخوالي وكان ولا يزال وسيظل مثلي الأعلى في حقيقة الأمر ومنذ نعومة أظفاري ؛ كان المثال الذي أحتذي به دائماً فقصيت عليه قصتي , فقال هات الخطاب ؛ قرأه بتمعن ثم وضع خطوطاً ؛ وقال اذهب إلى قسم التاريخ , وقل للمسئول : إن وزارة التربية والتعليم قد أعطتكم موافقة على دراستي , وأنها اشترطت عليَّ لا عليكم ألا يؤثر ذلك على عملي ؛ فذهبت وقابلت د. العثيمين وقلت له ذلك قال ولكننا سنعطيك جدول في الصباح وهذا يؤثر على عملك , قلت سأتدبر أمري مع عملي إدارة التعليم بالرياض ولن تصل المشكلة إلى الوزارة .حتى لو اضطررت أن آخذ إجازة استثنائية بدون مرتب ؛ قال انتظر وبعد دقائق اجتمع بها مع رئيس القسم ؛ قال خلاص تعال للمقابلة الشخصية الاثنين القادم .
وفي الاثنين بدأ زملائي المتقدمين يدخلون على اللجنة وكل من خرج إذا به متجهم الوجه كانت اللجنة تبلغهم حالاً بألا نصيب لهم بالدراسة ؛ وكل من خرج كانت إجابته مثل سابقه حتى تحطمت أعصابي ؛ أهو قرار مسبق من اللجنة برفض الجميع , ولم أدخل للجنة وبي بقية أعصاب ؛ حتى أنني كدت أنسحب حفاظاً على كرامتي ؛ وحين جاء دوري دخلت للجنة وجدت وجوهاً باشة قال أحدهم : هو أنت واثق من نفسك و الا مثل اللي سبقوك لم يجيبوا على سؤال واحد . قلت – وأنا قلق – : اسألوا ؛ فبدأ أستاذ التاريخ القديم ووجدني أسهب بالجواب فقال رئيس اللجنة يكفي يادكتور , قال دخيلك هذا أول واحد ياخذ ويعطي خليني معه شوي ؛ أفكاره جديدة علي أنا كمتخصص بس كويس يأخذ ويعطي ؛ ثم بدأ الأسئلة أستاذ التاريخ الوسيط فلم أترك له سؤالاً إلا أجبته مع أن أسئلته كانت تركز على الناحية الفكرية بين معاوية وعلي رضي الله عنهما ؛ فقال د. العثيمين الآن أنا عرفت مستواك سأسألك سؤال واحد صعب إن أجبته فلن أحتاج إلى سؤال أخر ( متى قامت ومتى سقطت كل من الدول السعودية ؟ فأجبته بدقة متناهية فقال مبروك. ومن عدم قدرتي على تصديق الأمر قلت ببلاهه يعني وش النتيجة ؛ قال أقول لك مبروك وتسألني ؟! ؛ سجل موادك السبت , خرجت وأكاد يغمى علي من الفرحة فقد كان اليأس قد بلغ مني مبلغه , وسجلت موادي في الفصل الثاني من عام 1408 هـ كان فصلاً تكميلياً ؛ حيث أنني خريج كلية التربية وهناك من المواد كان لابد أن أكملها قبل الماجستير .
في العام التالي طلبت النقل إلى شمال الرياض لأكون قريباً من الجامعة وسهلت مهمتي غير أنني مع بداية عام 1410 هـ قرر رئيس التوجيه التربوي إعادتي إلى مركز الجنوب اختلفت معه واحتدم النقاش وأجبرت على العودة للجنوب ؛ أبلغني رئيس التوجيه ألا أسجل أي مادة بالماجستير قبل الساعة الثالثة ظهراً لأني لن أخرج قبل الثانية ظهراً ؛ قلت النظام أننا ننهي عملنا مع المدرسة الزائرة فبأي حق أعامل انفرادياً بهذه القسوة ؛ أنا أنهي جدولي يوم الأحد مع مدارسي الابتدائية الثانية عشرة أو الثانية عشرة والنصف وسجلت مادة واحدة من الثانية ظهراً ؛ وهذا حقي , قال هذه أوامر من أعلى ؛ ذهبت إلى رئيس التوجيه الأستاذ عبدالله الخلف ؛ فوجدت منه قسوة ليس لها حدود كان من شراسته أنه لولا الحياء من مركزه لقام من مقعده لمصارعتي كأن هناك من يغذيه بكلام لم أقله أو ربما منعي من الحصول على الماجستير أو أي سبب آخر!!!. كان أول صدام لي مع زعماء الإخوان المسلمين بالمملكة .
قررت أن آخذ إجازة استثنائية بدون مرتب ؛ فقابلت مدير عام التعليم د. عبدالعزيز الثنيان لأول مرة , وقدمت طلباً مختصراً لإجازة استثنائية لثلاثة أشهر ؛ قال بهدوء الأب الحاني والمحب ماهو عملك يا أستاذ صالح ؟ قلت موجه . قال : ولِم تريد إجازة ؟ .قلت : السبب أنني محتاج للدراسة بالجامعة خلال هذا الفصل ورئيسي عليه ضغوط بألا أدرس في فترة الظهيرة – ملمحاً إلى قرار الأستاذ عبدالله الخلف الذي كان يذهب إلى القاهرة عدة مرات لأجل رسالة الدكتوراة ويمن علي أن أدرس ببلدي – ؛ قال لا هناك طريقة نعطيك في ذلك اليوم زيارة كافة المدارس الليلية فتتفرغ في الصباح للجامعة وتعمل في الليل بالمدارس , كدت أهجم عليه لأقبل رأسه – كطريقتنا بالجوف – لولا وقار كان يمنعني من ذلك ؛ شكرته بحرارة ؛ بما هو أهله كتب عليه شرح للمفاهمة وقلت والله إني بأمس الحاجة إلى راتبي ففرجت همي وإني عاجز عن شكرك ؛ كنت أخاطب نفسي ( هل ترى لذة عمل الخير … لو أصبحت يوماً بمكانه هل ستكون بمثل موقف المدير العام أم رئيس التوجيه ؟) كانت دروساً ساخنة أسخن عليها في الليل والنهار .
أتذكر موقفاً فعله أستاذ لولي عهد أحد الخلفاء فقبل أن يترك تعليم ولي العهد ضربه ضربة ظالمة ؛ فلم ينسها لأستاذه ؛ فحين أصبح خليفة ؛ استدعى أستاذه لعقابه على فعلته , قال : لقد أحببت أن تجرب الظلم فإذا أصبحت ولياً للأمر فلا تظلم ؛ كان آخر درس قرر ذلك المعلم أن يعطيه خليفة المستقبل ؛ فعفا عنه .
كان رئيس التوجيه التربوي قد قرأ الطلب ولم يدر ما يريد مدير عام التعليم فكتب بحماس رفضٌ للطلب مسبقاً ؛ وخرج لمكتب المدير العام فلحقت به , أمر د. الثنيان مدير مكتبه بإدخالي وهو لا يعلم الجو المتوتر بيني وبين رئيس التوجيه فقال المدير العام بالنسبة لأستاذ صالح أعطه المدارس الليلية على مدار العام ليتفرغ بالنهار للجامعة وفي الليل يكمل عمله بالمدارس الليلية ؛ كنت أنظر لرئيس التوجيه وهو ” يبتلع ريقه ” عاد صامتاً وهو ربما لا يشكك في أن ورائي ظهر أو واسطة جعلت المدير العام يتخذ هذا الإجراء , بينما كان الثنيان قد أخذ القرار بناء على أسلوبه الأبوي بالعمل مع الجميع كان رجلاً قيادياً من الدرجة الأولى وأفضاله على جميع منسوبيه لاتنسى .
مزق رئيس التوجيه غير التربوي شرحه بمسطره واعتذر لي وقال وهو ينظر لي بحنق مكشوف ؛اذهب وسيبلغك مدير المركز بالقرار ؛ ذهبت وأبلغت بقرار مدير عام التعليم بالرياض بأن أتفرغ ذلك اليوم صباحاً لأعمل بالليل ؛ ولم استطع أن أفرح طويلاً إذ قرر رئيس التوجيه نكاية بي وحدي أن يلغي قراراً سابقاً فكان كل موجه لديه عمل بمدرسة ليلية ألا يعمل بالصباح لكي لا يطالب الموجه ببدل عمل ليلي , وحين أكرمني الله بقرار د. الثنيان أن يسهل مهمتي أمر رئيس التوجيه التربوي رئيس المركز الذي أعمل به أن يجبر كل الموجهين إذا كان لديهم عمل بالمدارس الليلية أن يداوموا صباحاً حتى الساعة الحادية عشرة صباحاً , اعتصرني الألم ورئيسي بالمركز يبلغني بالقرار لأني علمت أنه يطاردني فأقسمت أن أطارده بالدعاء ” سهام الليل ” فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب .
كنت غير قادر على النوم من الضيق والهم من هذا الظلم الذي يلاحقني فأسقط أحياناً من سريري وأنا متعب مكدود وأسجد وأدعو ما شاء الله أن أدعو على ذلك الرجل الذي تسلط عليَّ دون وجه حق , شهرين كاملين أو أقل من ذلك ما فترت عنه ساعة من ليل ؛ فجاءني الخبر بشرى استقال فلان ؛ بل أقيل أو هكذا قيل !.
” أتهزأ بالدعاء وتزدريه وما تدري بما فعل الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن لها أمد وللأمد انقضاء ” .
ينسى الظالم وينام ملء جفنيه ولا يعلم أن المظلوم ساهرٌ يدعو رباً لا ينام ولا يسهو .
ترك خصمي مكتبه وحلَّ به رجل آخر ؛ و بشرني رئيسي بالعمل بأنني ليس بالضرورة أن أداوم الصباح , فرئيس التوجيه الجديد ألغى قرار رئيس التوجيه السابق . كنت أداوم بانتظام وأعمل بالجامعة حتى الثامنة ليلاً ثم أعطي أهلي حقهم عن غيابي الطويل ؛ ثم من الحادية عشرة ليلاً أدخل مكتبتي حتى الثانية عشرة ليلاً ؛ كانت قضيتي هو إمام المسجد في صلاة الفجر فهو يقرأ طوال السور وبأناة وترتيل حتى أن صلاة الفجر تزيد عن خمس وثلاثون دقيقة وأن متعب بين عملي ودراستي والجامعة حتى لولا خوفي من الله لدعوت عليه بصلاتي ؛ كان يضايقني وكنت أتذمر ولكن كان لابد من أن أتحمل ؛ غيرت ثلاثة سيارات في سنتين فالتوجيه بين المدارس وهي مناطق متباعدة جداً والجامعة بين جنوب وشمال الرياض كان مكلفاً جداً ولكنني كنت في جهاد في هذه الحياة .
دعونا نستريح في قهوة على جانب الطريق /
ربطتني صداقات واسعة برؤسائي وزملائي ومديري المدارس وكذلك المعلمين بمجتمع الرياض التعليمي ؛ وتيسرت كثير من أموري فما أردت شيئاً إلا وجدت بتوفيق الله من يعينني عليه في شتى الوزارات والمصالح في الرياض ؛ كانت بشاشتي هي موطن قوتي ؛ وهي ما يؤهلني لكسب محبة الناس .
في المجتمع التعليمي كانت لي ألف قصة وقصة ؛ ولعلي هنا في هذه القصص الحقيقية التي أكتبها ليس لتمجيد ذاتي ؛ ولكنها فيها من الطرفة وفيها الفائدة وفيها العبرة والتجربة ؛ ولعلها ستكون مثل استراحة على جانب الطريق لمسافر كي لا يمل من السفر .
كنت أزور مدرسة فيها مدير من الطراز القديم يعتني بالضيافة بالدرجة الأولى فقهوة هيل وقهوة مسمار وشاي أحمر وشاي أخضر وزنجبيل وشاي نعناع وأنواع شتى لا حصر لها ؛ وكنت أعيش حياة غذائية جبارة قاسية ؛ فأرفض أن أشرب القهوة بأنواعها منذ طفولتي ؛ ولعلني هنا أسجل أن آباءنا كانوا يخوفوننا بأن القهوة ضارة جنسياً , وحين كنت بالجامعة أو مع تخرجي أكدت دراسة ألمانية أن القهوة ضارة بالرجال جنسياً ؛ فحمدت الله أن كنت على حق , أعود إلى قصتي مع مدير المدرسة ؛ فعرض علي القهوة بنوعيها فاعتذرت .لِمَ ؟ قال , قلت : لم أعتد عليها ؛ فصب كأساً من الشاي كنت قرأت بدراسة ألمانية أخرى أن من يفطر فإنه يوفر السعرات الحرارية التي خزنها من عشاء البارحة , وأن من لا يفطر يصرف تلك السعرات فيحافظ على وزنه , فقررت ألا أفطر لسنوات طويلة ؛ ولأن العرب يركزون على الفطور بحيث يقول طبيبهم ” كل فطورك كله ؛ وكل نصف غداؤك وأعطي نصفه لجارك , أما عشاؤك فأعطه لعدوك ” لذا اضطررت أن أشرب كوباً من النسكافيه بالحليب كل صباح عوض الفطور ؛ فما كان ممكناً أن أشرب الشاي على الريق ؛ فاعتذرت أيضاً عن كأس الشاي الذي قدمه وانهمكت بالعمل مع مدرسي الاجتماعيات حتى أني لم أنتبه أن مدير المدرسة قد أصبح الأمر عنده قضية ؛ فقدم الزنجبيل فقلت أنا تعودت عليه بشتاء الشمال البارد أن آخذه مع الحليب أما هكذا ساده فلم أجربه من قبل فاعتذرت عنه ؛ فأتاني بشاي النعناع فقلت أنا أشربه مع الشاي الأحمر ولم أجرب النعناع وحده , واعتذرت ثم ذهبت مع أحد مدرسي الاجتماعيات للفصل .
وحين عدت بين الحصة الثانية والثالثة وجدت مدير المدرسة متحفزاً مستقتلاً يضرب كفيه أخماس بأسداس ؛ يريد أن يعرف ما السبب الذي يمنعني من أن أقبل ضيافته ولأنه رآني أهتم بمظهري كثيراً ذهب ظنه إلى أنني آنف عن استخدام آنيته ؛ فقلت ألا ترى بساطتي ؛ باختصار أنا أشرب غير كل هذه الخيرات التي عندك , قال ( متحفزاً ) ما هو ؟ , قلت نسكافيه بالحليب وهو غير موجود بالمدارس الابتدائية ؛ ذهبت مع المدرس الآخر وحين عدت بالفسحة ؛ فوجئتُ أن مدير المدرسة قد أعد النسكافيه بالحليب فشربت منها كوبين فتهلل وجهه . وفي الحقيقة كنت منهمك بالعمل ولم أحسب لهذه العملية النفسية عند هذا الرجل الكبير بسنه والوقور حسابها ؛ بعدها أصبحت أتعامل مع كبار السن بكثير من الحساسية والاهتمام .
***
في يوم آخر كنت عند معلم كبير بسنه ومحافظ على نفس المستوى خلال ثلاث سنوات متتالية وهو جيد ؛ وعبثاً حاولت أن أحفزه بشكل أكبر ؛ سألت مدير المدرسة فبين لي ما خفي ؛ المعلم لديه ظروف نفسية صعبة ليس لديه إلا أمه هو بلغ الخمسين ولم يتزوج فأشفقتُ علي حاله ؛ جاءني وبدأت برفق المحب أعطيه نقاط قوته أولاً وشجعته بحماس رغم أنه لا يستحق كل ما قلت , ولكني حين بدأت أبين له نقاط ضعفه ثار ثورة لا حدود لها سبني وهو جالس ثم قام وحين وصل إلى منتصف غرفة المدير وقف وأكمل شتائمه للتوجيه والموجه , كنت بابتسامة الصديق أردد جزاك الله خير , ثم وصل إلى باب الإدارة والتفت وأكمل سبابه , كان مدير المدرسة يلتفت إليه فيسمع الشتم والسب , ثم يلتفت إلي ويسمعني أردد جزاك الله خير ؛ فذهب حتى وصل منتصف الغرفة فإذا بمدير المدرسة يعود إليَّ ؛ ثم انتبه فذهب إلى المعلم ثم عاد إلي وهو في شدة الحنق ثم رجع للمرة الثالثة إلى المعلم وألقى به إلى خارج الإدارة , وأغلق الباب بعنف وعاد إلي غاضباً يصيح بأعلى صوته وهو بجانب جبهتي حتى ظننت أنه سيضربني ! قائلاً ” أنا مصيبتي فيك يسبك ويشتمك وأنت بارد ولا أنت هنا ؛ لو كان هالكلام موجه لي لصار شي ” , ثم جلس يتمتم ويقول : ” يقولون أهل الشمال باردين ؛ بس ما هو كذا هذا ما هو برود ” ! تركته حتى هدأ وبابتسامه قلت رجل مريض نفسي . ما هو أنت اللي قلت لي هذا الكلام قال : إلا , قلت إذاً زيادة على ما فيه تبغاني أزيد عليه , فأخذت استمارة التوجيه وزدت المعلم ثلاث درجات ؛ فقال لا , هذا لا يحتمل ؛ قلت قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتوجيه معلم صبيان بكيفية تعليم الصبيان أمام طلابه فغضب المعلم فسب عُمر , فانسحب عمر من المسجد , فقيل لعُمر : أيسبك وتتركه , فقال رضي الله عنه لا أحب أن انتقم لنفسي , فالزيادة هذه لكي لا يدخل الشيطان بيني وبين نفسي .
خرجت لزيارة مدرسة أخرى قريبة لأستفيد من الوقت ؛ فخرج مدير المدرسة إلى مدير المركز وأبلغه بالحادثة ؛ لا أدري أهو إعجاب أم استغراب ولكني وجدت مدير المركز وقد أكبرني بشكل لافت وبدأ يعطيني اهتماماً كبيراً .
***
موقف آخر كنت أزور مدرسة محمد بن الحنيفية بوسط الأحياء القديمة بالرياض ؛ كان بها مدير مدرسة فاضل له هيبته ووقاره وفجأة بعد انتهاء البرنامج الإذاعي إذا بالفراشين يقبضون على طالبين ويطرحونهم أرضاً بأمر المدير وترفع أرجلهم وتوضع الفلكة بهم ويبدأ الضرب ويبدأ العويل أنظر وأنا في فجيعة , مستحيل , مستحيل .. فلكة ؟! , مستحيل ؟! بعض الطلاب أغمي عليهم بالطابور من الخوف , نقلوا من قبل المدرسين إلى غرفة الإدارة , كنت في موقف لا أحسد عليه ؛ إن منعت مدير المدرسة المتهور أمام الطلاب عبثت أنا وهذا المدير المتهور بمستقبل المدرسة وناقضت أسلوب عمر مع معلم الصبيان ؛ سأتشابك معه بالأيدي وهذا لن يفيد العملية التربوية بالمدرسة ؛ وإن سكتُّ فتلك مصيبة أكبر .فانسحبت فوراً للإدارة وأنا أكاد أبكي من الألم , أي موقف أمتحن فيه لقد كنت أؤيد الضرب حقيقة وقتها , ولكن بهذا المستوى من الإجرام لا وألف لا . ثلاثة طلاب بالكاد أفاقوا أتى لهم المرشد الطلابي بالساندوتشات والحليب , دخل مدير المدرسة هائجاً غير عابئاً بوجودي بالمدرسة ؛ كنت سألت المرشد كيف تسمحون لمدير المدرسة باستخدام الفلكة ؛ فبين أنهم غير موافقين ولكنهم ليتهم هم يسلمون منه .
بدأ مدير المدرسة بمعايرة الطلاب بهذه الساندويتشات ؛ فبلغ السيل الزبي فصحت به قائلاً أسكت فقد تجاوزت كل الحدود تستخدم الفلكة وقد تجاوزها الزمن سأفقد وظيفتي بسببك سأتجه إلى جريدة الرياض وأفجرها أن هناك مديراً لا يزال يستخدم الفلكة وسأجعل للمشكلة دوياً لا تحمد عواقبه , دع الطلاب يفطرون بهدوء . قال لماذا لم يفطروا ببيوتهم ؟ قلت : خوفهم منك ومن أساليبك العتيقة بالتربية , جعلتهم يأتون يركضون دون وعي حتى سقطوا بالطابور من الخوف والجوع , وبلا حياء تعايرهم في لقمة تقدمها لهم أف على إدارة عتيقة مثل إدارتك ؛ وإذا بهذا الرجل الهائج يتحول إلى حمل وديع فجاء بجانبي يتأسف ويبين أن هؤلاء الطلاب إن لم يربوا بهذه الطريقة فسيفسدوا , قلت : كيف تريد أن تصنع منهم رجالاً وأنت تذلهم وترهبهم بمثل هذه القسوة ؛ كم من الأمراض النفسية التي تصاحب الطلاب الذين يتخرجون من مدرستك ؛ قال : المهم أن نطوي هذه الصفحة . قلت : أولاً سأثبت هذه الجريمة بدفتر الزيارات ؛ ثانياً سأبلغ رؤسائي مدير المركز ومدير التعليم شفوياً وإن طلبوا تقريراً مكتوباً سأكتب سأبرئ ذمتي ؛ أما الكتابة بالجريدة فسأعدك أني لن أفعل , أمضيت يومي وأنا غير مصدق من تحول سلوكيات هذا الرجل لقد أصبح ليناً مبتسماً ودوداً على عكس ما كان عليه في الصباح ؛ أبلغت رئيس المركز شفوياً وقد صدم كما أبلغت مدير التعليم وعلمت أنه في نهاية العام قد أبعد عن إدارة المدرسة أو أنه قد تقاعد .
***
كان بعض مديري المدارس حريصون كل الحرص على إقامة شلة داخل المدرسة يأتمرون بأمره يأتونه بأخبار زملائهم وحتى يسهرون معه في المساء كأمر إجباري ؛ زرت واحدة من تلك المدارس , في شمال الرياض ؛ استقبلني ببشاشة وبدأ يعطيني تقريراً عاجلاً عن المدرسين حتى قبل أن أسأله أعطاني كلاماً رائعاً عن الأول وقدمه لي قبل الطابور أما الثاني فأعطاني عنه تقريراً أسوداً ولم يستدعيه لمقابلتي حتى أنني صدقت تقريره , زرت الأول ووجدته بمستوى رائع ولكنه بتقدير جيد جداً وغضب المدير لأن المعلم يستحق الامتياز في نظره ؛ زرت المدرس الثاني وكنت مشككاً بقدراته ولكنه أذهلني إنه متميزاً سألته عن علاقته بمدير المدرسة قال كل شي تمام بس زعلان مني إني اعتذرت من الانضمام لسهرته ؛ حين رأى مدير المدرسة أن هذا المدرس قد حصل على ممتاز ؛ اسود وجهه ؛ وأخذني بجولة بالمدرسة ؛ بيَّن لي أنه صرف عشرون ألفاً على شلالات ونوافير بالمدرسة , قلت رائع ولكن ليتك وفرت ألف ريال للصرف على النشاط فالمعلم يحتاج إلى دعم المقصف للقيام ببعض الأنشطة ؛ صاح قائلاً : أنت أسوأ موجه شفته في حياتي ؛ قلت ربما لأن الجميع يجاملونك ولأول مرة تجد رجلاً يكتب ويقول ما يقتنع به لا ما توحي به إليه .
خرجت وحين وصلت إلى المركز وجدته يوشوش بأذن مدير المركز الذي كان محرجاً ؛ فخرج لما رآني ؛ فقلت لولا ما رأيت ما حكيت ؛ ولكن هذه أوراقي وشرحت له الموقف . قال : جاملته ولكن الحقيقة الأمر يعود إليك فهو غير متخصص ولا يمكن أن نأخذ برأيه على رأيك ولدينا ملاحظات عليه لكن لعله يغير أسلوبه مع التوجيه .
***
في يوم من الأيام أثناء زيارتي لمدرسة من مدارس المتابعة , وجدت مدير المدرسة يهدد بطلب النقل من المدرسة وهو في قمة الخوف ويحكي مهامسة لي وهو وجل ؛ ما الأمر ؟ سألته , كان يحكي وعيونه على الباب ؛ أحد المدرسين معه الحزام الأسود بالكاراتيه ؛ وهو يؤذي طلاب الرابع والخامس , وأنه حشر تلميذ يوم أمس بين الباب والجدار ويعصره والتلميذ كان بين الحياة والموت وزملاؤه يصيحون وأنا أستجديه أن يفك التلميذ دون جدوى . قلت والمدرسين أين هم وما موقفهم قال الكل ينظر إليه بخوف فهو مريض نفسي . قلت هذا مؤكد فتصرفه لا يمكن أن يفعله عاقل . ولكن ألا يوجد لديهم نخوة ! .
قلت ناده لي ؛ قال عنده حصة , قلت فليتركها وضع مكانه مدرس احتياط , لقد عرفت أنه إن ترك يأتي بمزاجه فسيكون موقفي ضعيفاً كموقف مدير المدرسة , جاءني وسلم وما كدت أصدق , كان في قمة الهدوء وكأن به حياء وجلس مؤدباً فلولا أني أشاهد مدير المدرسة يكاد يرتجف لكذبته ؛ قلت ما شاء الله قالي مدير المدرسة أنك تلعب الكاراتيه , فاعتدل بجلسته وقال مبتسماً نعم , أي حزام وصلته ؟ قال الأسود . قلت : أنا ألعب التايكواندو , فرفع جفنيه , قلت لابد أن لديك فكرة عن هذه اللعبة , ثم خضت معه تفاصيل دقيقة حول الفوارق بين اللعبتين وبينت له عن عمد أن التايكواندو ممنوعة دولياً لأنها لعبة قاتلة , وأنا لم أتجاوز الحزام الأزرق لكني مستعد لمنازلة الحزام الأسود للكاراتيه بثلاث ضربات قاتلة , مدربي هو صديقي وحرص على أن أتقن هذه الفنيات للقتال .
وبعد تفاصيل دقيقة وجدته قد ارتعدت فرائصه لأنني بدأت أوجه الكلام نحو معادلة يجب أن يفهمها , فمدير المدرسة صديقي والطلاب أعتبرهم أبنائي , ونحن حين نتعلم الكاراتيه فهي لخارج التعليم أما المدرسة فالعصا ممنوعة فما بالك بالكاراتيه ؛ وأنا من سوء حظي وحظك أنني أنا الموجه المتابع للمدرسة ولن أسمح أن يحقق معي لأن هناك مشكلة بالمدرسة ولم أنجح بعلاجها .قال يعني ؟ قلت إذا لمست طالب بعد الآن اعتبرني أنا والده , قام غاضباً ولكنه يتلعثم بكلامه من شدة الغضب فعلمت أنه لن يمس طالباً بعد الآن .
اتخذنا كامل الإجراءات أنا ومدير المدرسة وحوِّل المعلم للتحقيق , وقدم شكوى بمدير عام التعليم د. الثنيان ومدير المركز المجاهد وبي وبمدير المدرسة , وسمعت بعد مغادرتي للرياض ذلك العام أنه قد نقل تأديبياً من التدريس .
ولكي لا يكون هناك من يعتقد أن ما فعلته مدحاً للذات ؛ فوالله أنني كنت أخشى ألا أكمل كلامي إلا وأنا أقاتله وكنت في قرارة نفسي أعلم أنني لن أفوز عليه ولكنه أيضاً لن ينتصر عليَّ ؛ فكانت بكل أمانة نخوة لابد من أن أقفها وربي هو المعين وقد أعانني الله عليه وكفى الله المؤمنين شر القتال .ونجحت في نزع فتيل مشكلة كانت ستتطور إلى الأسوأ ؛ استخدمت فيها قوة التعبير والسياسة والدهاء إلى جانب قوة التحديق حتى أقنعته بخطأ تصرفه وأننا هنا لن نكتفي بالورق والتحقيق وإنما باستخدام الأسلوب نفسه .
د.صالح بن محمود السعدون
مدير عام التعليم السابق بمنطقة الجوف