الغزال الشاعر الوسيم والسفير المخضرم .. في الدانمارك

هو معشوق ملكات أوروبا , شاعر ودبلوماسي سريع البديهة أدهش أوروبا بعلمه الدبلوماسي , وقد ظلت محادثاته سراً لم يكتشفه المؤرخون .
د. صالح السعدون

الغزال , السفير الأموي لأوروبا :
معشوق ملكات أوروبا

قامت الدولة العباسية في العراق أنصار آل البيت , واتخذت من الأنبار والهاشمية ثم بغداد عاصمة لها , وبدأت بمطاردة دموية عنيفة ليس لها مثيل لكل من ينتمي إلى الأسرة الأموية التي حكمت العالم الإسلامي منذ عهد معاوية عام 41هـ الذي سمي بعام الجماعة حيث تنازل الحسن بن علي لمعاوية بن سفيان رضي الله عنهم بالخلافة, وحتى عام 132هـ الذي قامت فيه ما سميت بدعوة الرايات السود وهي رفع أبو مسلم الخراساني للأعلام السوداء أعلام بني العباس والثورة العباسية ضد الأعلام البيضاء وهي أعلام الدولة الأموية , وكانت آخر معارك الدولة الأموية التي خاضها آخر خلفاؤها مروان بن محمد هي معركة الزاب الأعلى أحد روافد نهر دجلة , حيث انتهت الدولة الأموية بخسارتها للمعركة , وهرب مروان بن محمد نحو صعيد مصر متخفياً حيث قتل هناك ولم يكن يتوجع لشيء أكثر مما يتوجع من بعده عن حب جارية له شغفته حباً , حيث كتب لها وهو في بوصير بصعيد مصر وقد خلفها بالرملة في فلسطين :
وما زال يدعوني إلى الصد ما أرى فآبى ويثنيني الذي لك في صدري
وكان عزيزاً أن بيني وبينها حجاب فقد أمسيت منك على عشر
وأنكاهما للقلب والله فاعلمي إذا ازددت مثليها فصرت على شهر
وأعظم من هذين والله إنني أخاف بألا نلتـــقي آخـر الدهر
سأبكيك لا مستبقياً فيض عبرة ولا طالباً بالصبر عاقبة الصبر
( ابن عبدربه ج3ص242) .
هرب عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك إلى المغرب العربي ومن ثم اجتاز مضيق جبل طارق ودخل الأندلس وبنى مجد الدولة الأموية بالأندلس فسمي بالداخل , وأسس دولة قوية بلغت أوج مجدها في عهد عبدالرحمن الأوسط وهو الحاكم الرابع من السلالة الأموية بالأندلس , حيث استفاد الشعب الأندلسي من الرخاء وبدأ يكتسب عادات رقيقة في الملبس والمأكل والمسكن , وبدأت حضارة الأندلس تشع على أوروبا , وأصبح ملوك أوروبا يحاولون خطب ود الأمير الأموي عبدالرحمن الأوسط و وأرسل له ملك الدانمارك ( النورمانديين ) وفد وطلب إرسال سفير إليه , وكذلك الإمبراطور البيزنطي , وكان الخلافات التي استمرت بين خلفاء بني العباس والأمويين بالأندلس , حيث منعوا الأندلسيين من الحج والتجارة وكان ذلك سببا في أن يتجه أمراء الأندلس لإقامة علاقات متينة مع أعداء الدولة العباسية وإن لم تكن هذه العلاقات تصل إلى حد التعاون ضد الدولة العباسية إذ اقتصرت على تبادل السفراء والتجارة والعلاقات الثنائية الحسنة .
كان يحيى بن الحكم البكري الجياني الملقب بالغَزَال ,وينتمي إلى بكر بن وائل شاعر الأندلس حينها – في عهد عبدالرحمن الأوسط – وشاعر البلاط , وقد سمي بالغزال لجماله ووسامته التي اشتهر بها , وكان الغزال إلى جانب أنه شاعر الأندلس فقد كان أيضاً بارعاً بالحكمة والعرافة , ويقول عنه المقري التلمساني (( كان الغزال حكيم الأندلس وشاعرها وعرافها , عمِّر أربعاً وتسعين سنة )).
ومن شعره ما لا يكتب في إسرافه ومنها قصيدة في قمة العذوبة يقول فيها :
خرجت إليك وثوبها مقلوب ولقــلــبها طـرباً إليك وجيب
وكأنها في الدار حين تعرضت ظبــي تعـلـل بالفـلا مرعوب
وتبسمت فأتتك حين تبسمت بجـــمــان دُر ٌ لم يشـنه ثقوب
ودعتك داعية الصبا فتطربت نفس إلى داعي الضلال طروب
حسبتك في حال الغرام كعهدها في الدار إذ غصن الشباب رطيب
وعرفت ما في نفسها فضممتها فتساقطت بَهْنانَةٌ رعبــــوب
إلى آخر القصيدة مما لا يجوز التمادي فيها …
وهو شاعر ماجن إلى حد ما , يجيد فن الشعر الغزلي , ويطعمه بشيء من المرح , وإن كان قال في مشيبة الكثير من الشعر المؤثر المليء بالحكمة والندم , وقد ساعدته هذه المواهب في مهمته الدبلوماسية .
وكان النورمانديين ( الدانماركيين ) قد غزو الأندلس مرتين وعاثوا بإشبيلية التدمير والفساد حتى تمكن الأوسط من بناء أسطول عظيم استطاع حماية الشواطيء الإسلامية بالأندلس .
وحينها خطب النورمانديين ود المسلمين بالأندلس , وطلبوا سفيرا للأوسط في بلاطهم فلم يجد أمير الأندلس أجدر من الغزال لهذه المهمة الدبلوماسية , وسافر الغزال الحكيم الشاعر , وقابل ملك الدانمارك وتحكي قصص التاريخ غزله وعلاقاته بزوجة الملك الدانماركي وأسمها ( تود ) الذي يصفهم المؤرخين الأندلسيين بالمجوس , أكثر مما تكلموا عن نجاحه بسفارته الدبلوماسية , وربما كان الغزال وعبدالرحمن الأوسط تعمدوا ترويج أخبار الغزل والعلاقات الخاصة التي أقامها الغزال مع الملكة ليشغلوا الرأي العام عما يدور من علاقات ودية مع أمة مجوسية محاربة للأندلس بما لا يحبذه الناس في ذلك العصر ولا يقبلونه .
في بلاط الملك والملكة في الدانمارك كان السفور هو السائد في ذلك المجتمع ربما بشكل مشابه لما هو عليه الحال في السويد الآن , وكان الغزال من الوسامة أن أصبحت الملكة تسأله أسئلة شخصية ودقيقة , بل ويتحدث المؤرخين عن علاقات خاصة واجتماعات شخصية وأسرار أخرى قد تفهم بالإشارة , كان الغزال حين وصل إلى الدانمارك قد ناهز الخمسين عاماً , ولكن رغم أن الشيب قد وخط بسالفته إلا أنه ظل محافظاً كشعب الأندلس على وسامته وشبابه , فسألته الملكة يوماً عن سنه , فداعبها بقوله عشرون عاماً , فقالت : وما هذا الشيب ؟ فقال : وما تنكرين من هذا ؟ ألم تري قط مهراً ينتج وهو أشهب ؟ فأعجبت بقوله , فقال في ذلك شعراً :
كُلّفْتَ يا قلبي هوى متعباً غـــالبت مــنه الضيغم الأغلبا
إني تعلَّقت مــــجوسية تأبى لشمس الحسن أن تغربا
أقصى بلاد الله في حيث لا يلفي إليـــه ذاهـــب مــــذهبا
ياتود يا رود الشباب التي تطلـع مـن أزرارها الكــوكـبا
يا بأبي الشخص الذي لا أرى أحلى على قلبي , ولا أعذبا
قالت أرى فوديه قد نوَّرا دعـــابة توجـــب أن أدعبا
قلت له ما باله ؟ إنه قد ينتج المهر كذا أشهبا
فاستضحكت عجبا بقولي لها وإنمـــــا قـــلت لكي تعجبا
ترجم لها الترجمان مقاله وشعره فضحكت وأعجبت , ولكنها أمرته بالخضاب , يبدو أنها تريد أن تعيده شاباً, فجاء بالغد وقد إختضب .وقال : بَكَرَتْ تحسن لي سواد خضابي فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشيب عندي والخضاب لواصف إلا كشمس جُـــللت بضباب
تخفي قليلا ثم يقشعها الصبا فيصير ما سترت به لذهاب
لا تنكري وضح المشيب فإنما هو زهرة الإفهام والألباب
فلدي ما تهوين من شأن الصِّبا وطــلاوة الأخــلاق والآداب

ولم يصل الغزال إلى الأندلس حتى فكر الأوسط – ربما لنجاح سفارته إلى الدانمارك – بتوجيهه إلى القسطنطينية , لتقوية العلاقات مع بيزنطة التي كانت تعاني من صعوبة علاقاتها مع هارون الرشيد خليفة الدولة العباسية ببغداد , ووصل الغزال إلى بيزنطة وفوجيء السفر الأندلسي أن موظفي مراسم البلاط الإمبراطوري قد خصصوا باباً لدخوله يجبر من يدخل معه على الانحناء إلى درجة الركوع والخضوع , ولأن السفير يمثل دولة إسلامية فقد جد من الصعوبة بمكان أن يخضع ويركع لغير الله ولدهشة موظفي البلاط ولدهشة الإمبراطور ومستشاريه ووزرائه حين رأوا السفير الأندلسي يدخل منحنياً ولكن واضعاً مؤخرته نحو الإمبراطور ورأسه إلى العكس حتى دخل مع الباب ثم استقام والتفت في دهشة الحاضرين من حيلة وحكمة السفير .
ومن الواضح أن عبدالرحمن الأوسط الأموي وسفيره الغزال أرادا ألا يعلم الناس بأسرار السفارة , وأن ينسى الناس في الأندلس أنها قد تكون ذات أهداف معادية للخلافة العباسية , بما في ذلك من تحالف من قبل دولة إسلامية مع دولة مسيحية ضد الخلافة , فأتحفنا الغزال الداهية بكل علاقاته الغرامية في بلاط الأمبراطور البيزنطي وأنسانا كل المباحثات الدبلوماسية ونتائج سفارته السياسية .
وكان الغزال حريصا خلال سفارته الا يذكر التاريخ ما يشينه فقد أحبه الأمبراطور إلى الدرجة أن طلب منه منادمته بشرب الخمر ليلا , فاعتذر بتحريم الخمر , مع أن له قصيدة خمرية تبز قصائد أبي نواس , ولكن حين تدخل الإمبراطورة زوجة الإمبراطور وهي في كامل زينتها , فإنه ينسى نفسه كرجال الشرق وينظر إليها بشكل يحرج الإمبراطور فأول مرة دخلت بزينتها وكبريائها ذهل الغزال من جمالها وهي كما يقول المؤرخين (( وهي كالشمس الطالعة حسناً , فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها , وجعل الإمبراطور يحدثه وهو لاهٍ عن حديثه , فأنكر ذلك عليه وأمر الترجمان بسؤاله , فقال له : عرِّفه أني قد بهرني من حسن هذه الملكة ما قطعني عن حديثه , فإني لم أر قط مثلها , وأخذ في وصفها والتعجب من جمالها , وأنها شوقته إلى الحور العين , فلما ذكر الترجمان ذلك للإمبراطور تزايدت حظوته عنده , وسرَّت الإمبراطورة بقوله )), وجرأ الإمبراطورة أن تسأله أسئلة حساسة عن الأسباب التي جعلت المسلمين يقومون بالختان للرجال بما في ذلك من تغيير لخلق الله وانعدام الفائدة فيه .فأجابها إجابة دبلوماسية وقال (( فهمها أن فيه أكبر الفائدة , وذلك أن الغصن إذا زُبِرَ قوي واشتد وغلظ …. فضحكت وفطنت لتعريضه )) ( التلمساني , ج2 , ص 257- 259) , وتحكي بعض كتب التاريخ عن مزيد من المغامرات بين الشاعر السفير وبين إمبراطورة القسطنطينية .
وبعد عمر سياسي حافل عاصر به الغزال خمسة من أمراء الأندلس توفي معشوق الملكات بعد عمر ناهز أربعة وتسعين سنة في عام 250هـ.

د. صالح السعدون

782

الكاتب د.صالح السعدون

د.صالح السعدون

د.صالح السعدون مؤرخ وشاعر وأكاديمي / لدينا مدرسة للتحليل السياسي غير مألوفة..

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة