بين الأدب والسياسة 4/21
الحديث بين السياسة والأدب ذو شجون , دعونا نبحر اليوم في واحدة من تلك القضايا , فقد كان هناك فارق بين عرب عام 1492م وعرب القرن العشرين رغم أنهما عصري الذل للأمة , لكن على الأقل كان هناك قدرة على اتخاذ موقف.
د. صالح السعدونالفرق بين عرب القرن 15 الميلادي وعرب القرن 20 الميلادي
في عام 1492م كان الأسبان قد توحدوا من خلال إتفاقية توحد بين مملكة ليون ومملكة قشتاله المسيحيتين , وكانت ملكة ليون إيزابيلا قد إشترطت أن يكون عقد قرانها على الملك فرناندو مفتاح وعرش مملكة غرناطة العربية آخر معاقل العرب بالأندلس , وكان الأسبان قد بدأوا بسحب بساط أرض الأندلس من تحت أقدام العرب منذ زمن بعيد شبراً فشبراً وإقليماً إثر إقليم , وربما كان العرب سيخرجون من الأندلس قبل قرنين من هذا التاريخ لولا قرار عظيم إتخذه رجل عظيم هو المعتمد بن عباد , حين إستدعى يوسف بن تاشفين لإنقاذ أهالي الأندلس من الضغط العسكري الأسباني المسيحي , رغم معرفته المسبقة أنه سيكون أول ضحاياه , ثم ضعفت دولة يوسف بن تاشفين بعد انتصارات, فأنقذ الله الأندلس بعرب بني هلال وبني سليم الذين ساحوا في المغرب العربي ثم وصلت طلائع شبابهم وفرسانهم ومجاهديهم الغيورين إلى الأنلس في رحلة قدر الله لها أن تعيد تعريب المغرب وتشحن الأندلس بمزيد من الإصرار على مقاومة الحرب الصليبية هناك .ثم جاءت دولة الموحدون لتدفع الأسبان وقتاً آخر من الزمن حتى ضعفت المغرب فأصبح العرب بالأندلس بدون حائط يسندون عليه ظهورهم , فأصبحوا وحدهم بالميدان أمام عدو قوي وعدواني .
كانت أسبانيا الموحدة قوة أقليمية كبرى وهي في طريقها لأن تكون القوة الأولى بالعالم تماماً كوضع أمريكا هذه الأيام , في الوقت الذي كان وضع العرب بدويلة غرناطة الأندلسية والتي ليست سوى جيب صغير في جنوب الأندلس لا تختلف عن أية دويلة من دول الطوائف العربية في العصر الحديث , فقد كانت هزيلة ضعيفة غير قادرة على الصمود أمام الحصار الإقتصادي والسياسي والعسكري الذي فرضته القوى الأسبانية عليها .
كان شعب الأندلس قد إتجه بشكل مبكر نحو الرفاهية والفساد , وربما حقت عليه سنة الله في خلقه (( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فحق عليهم العذاب فدمرناها تدميرا )) كان ذلك قبل ثلاثة قرون سبقت عام سقوط الأندلس 1492م , لقد كان الشعب الأندلسي قد إتجه إلى العزف والقيان والرفاهية أكثر من إهتمامه بتدريب أبنائه على الرمح والسيف وركوب الخيل , ولذا فقد أنقذ بلاد الأندلس شعب المغرب العربي من البربر والعرب على أيدي دولتي المرابطين والموحدين وعرب( بني هلال وبني سليم) لقد مثل هذه الطائفة من الأمة آخر ملوك غرناطة من بني الأحمر وهو عبدالله الصغير الذي حين سلم غرناطة للأسبان دون قتال وخرج إلى العدوة بالمغرب من خلال أحد الجبال إلتفت إلى الأندلس وبكى فوق جبل سماه الأسبان (حسرة العربي ) , فقالت أمه وهي تشاهذه يبكي : (( إبك مثل النساء على ملك لم تحافظ عليه مثل الرجال )) ,على أنه لم يكن عبدالله الصغير وحده بل كان عصره بكل مافيه من ملذات الحياة .
وسقطت الأندلس ليبدأ الغرب حرباً ضروساً في هجمة شرسة على الأمة الأسلامية سجلها الكاتب اليهودي الرافض لعدوان الغرب وثقافته ( نعوم تشومسكي) بكتابه الرائع (( 501 سنة الغزو مستمر )) وهو يعني أنه منذ عام 1492م- 1993م قد مضت على حرب الغرب الصليبية على العالم الإسلامي 501 سنة أي سنة وخمسة قرون في حربهم الصليبية الإبادية القذرة, ولم يكن عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1992م إلا نوع من تذكير العرب بهذه الهزيمة لأن مدريد ليس لها لا ناقة ولا جمل بالصراع العربي الإسرائيلي , وكان المتوقع أن يكون مثل هذا المؤتمر في واشنطن وموسكو أو في سويسرا مثلاً .
وهنا نأتي إلى مضمون المقال :حين سقطت فردوس الإسلام المفقود الأندلس ردد العرب في جزيرة العرب صدى سقوط الأندلس في مساجدهم ومجالسهم ومأكلهم وملبسهم , ولبسوا السواد , سواد الحداد العربي على جزء ثمين وغال من بقاع الأمة ضاع ربما إلى غير رجعة إلا أن يشاء الله في زمن الله أعلم به .وكان العرب يكرهون لبس اللون الأسود ولعل هذا اللون إرتبط بطريقة من الطرق بطائر الغراب الأسود وما ينذر به من الشؤم .ويحكي لنا التاريخ قصة تاجر بغدادي جاء إلى المدينة المنورة ومعه أقمشة نسائية من كل الألوان حتى باعها كلها عدا القماش ذو اللون الأسود فبقي معه زمن طويل فلاهو قادر على العودة به إلى بغداد ولا بيعه والخلاص منه , فشكى وضعه لأحد فقهاء الحرم المدني , الذي ضحك وقال وماذا لو بعته في يومين ثم أنشد قصيدة إرتجلها من بيتين من الشعر , ( وكان الشعر أقوى في ذلك العصر من كل الدعايات التلفزيونية في عصرنا الحالي ) وقال :
قل للمليحة في الخمــــــار الأسود ماذا فعلت بناســــك متعبـــــــد
قـــد كان شـــمَّر للصــلاة إزاره حتى وقفــــت له بباب المسجد
فانتشر الشعر كالنار في الهشيم , فما سمعته فتاة أو صبية في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا طلبت من أمها أن تشتري لها قميصاً من اللون الأسود , وباع التاجر البغدادي ما لديه شاكراً لصديقه حسن التفاتته وذكائه , ثم عاد اللون الأسود كلون يلبس بالمآسي والمصائب والحداد .
في سنة سقوط الأندلس تميز عرب الجزيرة العربية عن غيرهم من شعوب الأمة الإسلامية بموقف رائع , فقد جاءهم خبر سقوط الأندلس كالصاعقة , فلبس الناس رجالاً ونساء اللون الأسود حداداً على الأندلس ولا تزال نساء العرب يلبسن السواد إلى يومهن هذا فأما النساء فارتدين العباءة السوداء بدلاً من العباءة الملونة المتناسقة مع لون ثوب المرأة ومن شتى الألوان في زمن مضى ,أما الرجال فقد غيروا لون عقالهم من اللون الوبري والصوفي بمختلف الألوان إلى اللون الأسود .
هؤلاء هم عرب القرن الخامس عشر الميلادي , أما عرب القرن العشرون فهم لم يجهلوا فقط لم لبست نساؤنا السواد خمسة قرون , بل إنهم لم يستطيعوا أن يبتكروا مزاجاً شعبيا تعبيريا استنكارياً للغزو الأمريكي الوحشي والهمجي في هذا العقد على العراق , ولو بأي لون من ألوان الإحتجاج السلمي المزاجي الشعبي , إن ما بين الموقفين تماماً كالمسافة بين الثرى والثريا .
د.صالح السعدون