مذكرات مدير عام تعليم سابق الحلقة 14

مذكرات مدير عام تعليم سابق الحلقة 14
ورغم المفاجأة إلا أنني شكرته كثيراً لهذه اللفتة ثم استثمرت الوقت مباشرة وقلت : (( في مجال حديثنا عن معلم الفصول الأولية فإنني وجدت كمدير لإدارة تعليمية أن كليات المعلمين وكليات التربية تصرف من الزمن على تدريس المعلمين الخريجين منها كثير من الزمن المهدور وكثير من المواد العلمية , وحين ندقق نجد أن كثير من المواد العلمية التي قد تزيد عن سبعين ساعة لا يحتاجها تلاميذ الصفوف الدنيا ولا معلميهم ..الحلقة الرابعة عشرة
اكتمال ونضج التجربة :

المباني المدرسية المستأجرة :

كانت هيئة التدريس من المعلمين ومديري المدارس وكذلك المشرفين التربويين والطلاب أيضاً كلهم يئنون من سوء المباني المدرسية المستأجرة , وكانت وزارة التربية والتعليم قد قصرت تقصيراً كبيراً في الحقبة التي سبقت عام 1414هـ في بناء مدارس حكومية على مستوى المملكة عامة وربما في القريات خاصة , وتأتينا تقارير شبه أسبوعية عن الحالة المتردية أكثر فأكثر عن تلك المباني فهذا المالك يرفض رفضاً قاطعاً أن يقوم بإصلاحات في الشبابيك أو الأبواب , أو البلاط المتردي إلى أسوأ ما يمكن أن يقبل في بيت فقير فضلاً عن مدرسة حكومية , وذلك يأبى تجديد المكيفات العتيقة التي أكل عليها الدهر وشرب , هذه المدرسة بدون ملاعب وتلك بدون مكتبة ولا معامل وأخرى لا يمكن تحمل المغاسل ودورات المياه فيها , وكنا بحاجة إلى جدولة مستوى المدارس بشكل عكسي أيهما الأكثر حاجة للإصلاح , ووضعنا خطتنا على أساس الطلب من المالك القيام بواجبه وإلا فإننا سنعلن عن رغبتنا باستئجار البديل , كان المالك يستهتر فعلاً بمصالح الناس وكنا نقول نحن لا يهمنا مصلحة المالك وذلك لعدة أمور :
1- أن مبنى المدرسة قد تم استئجاره من أجل المصلحة العامة وليس من أجل المصلحة الخاصة .
2- أن المالك قد أجر هذا المبنى لعشر سنوات وبعضها لعشرين سنة فهو قد استفاد وأخذ أربعة أضعاف قيمته, ومن هنا فلا حجة له ولا يوجد ضرر من خروج التعليم من هذا المبنى المستهلك ويمكن للمالك إعادة ترميمه والاستفادة منه بطريقة أو بأخرى .
3- أن هناك لجنة من مجموعة من الدوائر الحكومية ستعوض المالك عن بدل الأضرار عند خروجنا منه .
في حين أننا مضطرين للخروج من هذا المبنى المنهك حرصاً على سلامة طلابنا وأبناء الناس صحياً ونفسياً وتعليمياً وتربوياً فليس من المعقول أن يدرس أبناء أسبانيا أو أمريكا أو الصين بمباني مدارس نموذجية بينما أبناءنا يسجنون – لا يدرسون – في مطابخ وصالات مقفلة وغرف ضيقة وساحات من ثلاثة أمتار أو خمسة فلا بيئة تربوية ولا تعليمية ولا حتى مناسبة لقضاء الطالب لأبسط احتياجاته الإنسانية ؛ لقد زرنا مدارس ومعاهد وجامعات أوروبية فكانت المدرسة ذات مساحات خضراء تساوي في بعض الأحيان ثلاث أضعاف المساحة لأفضل مدارسنا , وكان مصدر ألمنا إننا نحن المسئولون أمام الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء البراعم وقد ولانا الله مسئوليتهم وسيحاسبنا عليهم بمبدأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال : (( والله لو عثرت بغلة في طريق العراق لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة لماذا لم تسوي لها الطريق يا عمر )) .
واجهتنا عدة مشكلات : المشكلة الأولى : كانت عدم مسئولية موجهي ومفتشي الوزارة فهم يأتون كي يقولوا وجدنا بالمنطقة الفلانية أخطاء ويكتبون تقارير تبرر أهمية انتداباتهم التي تثقل ميزانية الوزارة , ولكن حين نشتكي لهم سوء الحال ونطالبهم بمساعدتنا كان بعضهم يهز رأسه دون أن يفعل وإن فعل فبلا حماس يقنع المسئول الذي لم يشاهد المشكلة , بينما بعضهم يقوم بمناقشتنا أن وضعكم يعتبر أفضل بكثير من الرياض العاصمة وحين أقول له أنني عملت بالرياض وأعرف حالها أكثر منه حتى لا يصاب بالحرج .
المشكلة الثانية : كان الشق قد أعيا الراقع فمسئولي الوزارة تحت مشرط وزير المالية الذي يعتبر هو ورجاله ألد أعداء التنمية والتطوير وآخر ما يهتمون به هو تطوير بلادنا على مستوى البلدان الراقية , ولذا فقد كانت كل ميزانية تأتي تحسد سابقتها , ومن هنا فمسئولي الوزارة لا يعرفون أين ينفقون المبالغ المرشدة بميزانيتهم , ومن هنا فمع الأسف لم نجد آذان صاغية منهم لرفع معاناتنا فيما يتعلق ببناء مدارس حكومية جديدة أو على الأقل إطلاق يد مسئولي إدارة التعليم في إصلاح وضع المباني المستأجرة بمباني جديدة , إن النظام واضح حين تكون المباني المستأجرة لا تحقق الغرض أو لوجود ملاحظات عليها فالنظام يلزم المالك بإصلاح الخلل أو الخروج من مبناه , ولكن مسئولي الوزارة قد وضعوا الأنظمة على الأرفف فربما اتصال من جهة ما أو شكوى برقية توقف كل الإجراءات التي قامت بها إدارة التعليم خلال عام كامل .
المشكلة الثالثة من الملاك فبعضهم يماطل في القيام في إصلاح ما يجب عليه نظاماً إصلاحه حتى إذا تم الإعلان عن البحث عن مبنى بديل قام يقدم شكاواه بكل اتجاه , ومع الأسف في بعض الأحيان يجد الاستجابة من الوزارة وأحياناً قليلة يجد استجابة من الإمارة , ويبقى طلابنا في أسوأ بيئة مدرسية لمجرد أن يستفيد المالك ثمانين ألف ريال أو أقل أو أكثر .
أمام هذا الحال أجرينا دراسة رائعة بالقريات بيَّنت الدراسة للوزارة والدولة.. أن طلاب ثلاث مدارس مستأجرة سيتمكن مبنى حكومي واحد من استيعابهم فإذا كان كل مبنى مستأجر سيكلف الدولة ثلاثة ملايين ريال خلال عشرون عاماً (100.000×3=300.000×20سنة =3.000.000ريال ) وأن ثلاثة مباني مدرسية للمرحلة الابتدائية مثلاً ستحتاج حوالي ثلاثين معلماً , وأجرت الدراسة حسابات على عينة حقيقية من المدارس وفيما لو تم حساب مرتبات المعلمين في المدارس الثلاثة ( 10مدرسين بمدرسة واحدة ×متوسط مرتباتهم 10.000ريال للمعلم الواحد = مليون ريال ×3= ثلاثة ملايين ريال ) معنى ذلك أن تكلفة وجود ثلاثة مدارس بمباني مستأجرة قد يكلف الدولة خلال عشرون عاماً مايلي : 3ملايين قيمة استئجار المباني + ( 3ملايين ×20 سنة = 60مليون ) المجموع 63مليون بينما لو حسبت في مبنى حكومي واحد لوجدنا أن التوفير يزيد عن ثلاثين مليون ريال خلال عشرون عاماً أي أن التوفير سيكون قريباً من النصف فلو ذهبنا إلى حساب أعداد المباني المستأجرة كلها بنفس الطريقة لوجدنا أن هذه المباني تكلف الدولة مبالغ باهظة وأن القرار السليم هو التعجيل بقدر الاستطاعة ببناء مباني حكومية لكافة المدارس , أعجب كثير من مسئولي الوزارة بالدراسة وبني عليها فيما بعد الكثير من القرارات .
لعلني أهمس لكثير من مديري الإدارات الحكومية تعليمية وغيرها بأن القرارات الكبرى يجب أن تتخذ بهكذا طرق أن تدرس كافة الخيارات ومن ثم يتم نقد كل قرار على حدة نقداً موضوعياُ ثم إذا تمت دراسة كافة الخيارات من كافة الجوانب السلبية والإيجابية يمكن الوصول إلى قرار سليم بعيداً عن الهوى والرغبات الشخصية .

حين كنت منهمكاً بالعمل قصرت كثيراً ببناء علاقات متينة مع أطياف المجتمع فكنت مؤمناً بأمرين الأول : هو أن بقائي بالقريات قد لا يتجاوز ثلاث إلى أربع سنوات ومن هنا يجب علي التركيز على العمل وكأني آلة صماء يجب أن أقلب المعادلات حتى أثبت أن العمل والعمل وحده يمكن أن يحقق أغلب النتائج حتى في أقل التكاليف المالية ومن هنا فلست بحاجة إلى السهرات بقدر ما أنا والناس محتاجين للعمل . أما الثاني فهو أن الناس يريدون مني أن أعمل لأبنائهم كخادم يقدم لهم أفضل وأرقى خدمة في مجال عملي من تطوير للتعليم وليس كمدير تشريفات يتنقل بين مجلس وآخر ليس له كثير اهتمام بعمله , أذكر أن عمدة غطي وهو من أفضل من عرفت في العلاقات العامة كان طيباً محبباً إلى القلب بشوشاً حين يزورني بمكتبي كان لا يخرج إلا وقد أبهجني بطيبته وحسن معشره , وكان يزورني ومعه مدير متوسطة غطي , وقد فاجأني بكرم كبير حين عرض علي أرضاً دون مقابل كهدية كما أتذكر قال 70م×70م على مثلث مدخل غطي مع الطريق الدولي , كنت قد شكرته من القلب على هذا الكرم ولكنني اعتذرت منه بلطف وبينت إليه أن مثل هذه الهدية محرمة شرعاً عليَّ ولا يمكنني قبولها , مع تقديري وامتناني الشخصي لهذه الهدية . غير أنهما كما يبدو لم يستوعبا منطلقاتي لرفض الهدية فجاءاني بعد شهر أو أقل أو أكثر وزاد بكرم نادر في حقيقة الأمر أطوال الأرض فقلت له وأنا أقبل رأسه : ثق إنك وأنت بسن والدي من أقرب الناس إلى قلبي ولكن القضية بالنسبة لي هو أنني جئت إلى القريات بثيابي وأريد أن أخرج منه بثيابي فقط .. أريد أن أكون خفيفاً متى كلفت بمهمة أخرى لا أجد هنا ما يعوقني ..
وقد كان فقد خرجت من القريات كما قلت ولله الحمد .

كان من الأعمال الخارجية لي كمدير تعليم للقريات أن كلفت ضمن وفد للوزارة سيزور الأردن الذي تنعقد فيه مؤتمر لليونسكو حول شعار التعليم للجميع , كان لدي ظروف خاصة ولكن كان من الصعب أن أعتذر عن أول مهمة أكلف بها في تمثيل للوطن , كان هناك أمرين في هذا المؤتمر : الأمر الأول هو أن الزي السعودي يظل له هيبته وأهميته لدى شعوب الكرة الأرضية وكلما ابتعدنا عن العرب نحو أفريقيا وأوربا وأسيا وأمريكا اللاتينية كلما كان الزي السعودي له كثير من الجاذبية ..كان يختطف الأضواء أنَّى ذهبنا, ولقد فوجئت أن كثير من الوفود الأفريقية واللاتينية تطلب بإلحاح علينا أن يأخذوا معنا صورة وكنا مكان احترام كبير في كل أرجاء المؤتمر .
أما الأمر الثاني فهو أمر شخصي ولكنه أيضاً كان محسوباً لإدارة تعليم القريات ومنطقة الجوف فقد كنت في إحدى الندوات عن المعلم ودوره في العملية التعليمية والتربوية قد طلبت المداخلة وسجل رئيس الجلسة بروفيسور كبير السن من أمريكا اللاتينية لا أدري أهو من الأرجنتين أو فنزويلا .. فأعطاني المداخلة في وقت رأى أحد زملائي أن د.الثنيان يطلب تسجيل اسمه للمداخلة .. فقلت لرئيس الجلسة : السيد رئيس الجلسة لقد رأيت رئيس الوفد السعودي يطلب المداخلة , ولذا فإني أتنازل له عن دوري بالحديث .. وفي الوقت الذي بادر الدكتور الثنيان بالحديث كان رئيس الجلسة قد فهم من المترجم ما قلته , فبعد أن انتهى د.الثنيان من الحديث قال رئيس الجلسة في لفتة رائعة .. ما معناه حسب الترجمة أنه يبدي إعجابه بهذا الأسلوب الرائع والراقي والمتحضر من تنازلي عن الحديث لصالح رئيسي وأنه أمام إعجابه بهذا الرقي فسيستخدم صلاحياته كرئيس للجلسة ليعطيني المداخلة الآن وليس فيما بعد : ورغم المفاجأة إلا أنني شكرته كثيراً لهذه اللفتة ثم استثمرت الوقت مباشرة وقلت : (( في مجال حديثنا عن معلم الفصول الأولية فإنني وجدت كمدير لإدارة تعليمية أن كليات المعلمين وكليات التربية تصرف من الزمن على تدريس المعلمين الخريجين منها كثير من الزمن المهدور وكثير من المواد العلمية , وحين ندقق نجد أن كثير من المواد العلمية التي قد تزيد عن سبعين ساعة لا يحتاجها تلاميذ الصفوف الدنيا ولا معلميهم .. ونحن نحتاج بشكل أدق إلى تدريب المعلمين على صناعة الوسائل التعليمية ومن الخشب والبيئة المحيطة فقد يحتاج المعلم إلى مادة في النجارة أو الحدادة أو خلافها ليصنع وسيلة غير متوفرة أفضل من أن نزيد جعبته من المواد العلمية التي لا يحتاجها تلميذه .. نحن بحاجة إلى إيجاد تخصص في هذه الكليات التربوية تحت مسمى تخصص الصفوف الأولية كي ننتقل بتدريب معلمي هذه المرحلة نقلة نوعية .. وشكراً )) ذهل البروفيسور رئيس الجلسة وأثنى ثناء ليس لي أن أنقله بتفاصيله ولكنه كان بما معناه : أنك أكثر من رائع فليس فقط أخلاقياتك واحترامك لرؤسائك بل إن ما يذهل هو هذه الأفكار التي قلتها والتي يفخر بها بلدك وأنه هو سيعمل على أن تكون هذه الرؤيا أو المقترح ستأخذ طريقها لتكون توصية رسمية للندوة وبعد سنوات قليلة أصبح المقترح لدينا رسمياً بكلياتنا وغيرها من بلاد العالم . حين انتهت الندوة كنا نسير في البهو بمعية الدكتور الثنيان وصادفنا وزير التربية القطري .. قال : أنت الذي قلت المداخلة الخاصة بإيجاد قسم للصفوف الأولية قال د.الثنيان نعم هو الأستاذ صالح السعدون صافحني بحرارة وقال : لو أن شبابنا بحماسك لكانت الأمة بخير .. وأثنى بكلمات ليس هنا مجال الحديث عنها .
كنت استغليت الجلسات بالنقاش مع الدكتور الثنيان عن مسألة نقلي إلى الجوف أو على الأقل الحدود الشمالية . قال الآن أنا كلفت محمد المهنا أن يبلغك أنني أرغب بتقريبك لأهلك وأنت رفضت .. تألمت وصمتت ! كانت هذه أساليب الإخوان .. !! لم يقل لي الأستاذ محمد المهنا مدير مكتب د.الثنيان أنه اقتراح لوكيل الوزراة بل لم يذكر الأمر بهذه الطريقة ! أتى بالموضوع وكأنه يقترحه هو شخصياً له وليس رأي لسعادة الوكيل وأتى به بأسلوب مستفز كان يعرف أنني سأرفض حين يقوله لي بتلك الطريقة , تألمت وأنا أتذكر أسلوبه معي وعرضه للموضوع كما لو يكون هو صاحب المعروف والاقتراح , ولأنني لا أثق به بتاتاً رفضت الحديث معه لقد كان دائماً عدو أنى وجهته لا يأتي بخير , كان يريدني مجرد تابع له أعيِّن من يريد من خلال مكالمة تلفونية , وحين رفضت الاستجابة لأي طلب له جعل مني عدوه اللدود . كنت أعلم بمدى ثقة وكيل الوزارة بمدير مكتبه فلم أقل شيئاً إلا بيني وبين نفسي ” حسبنا الله ونعم الوكيل ” .

كانت مسألة نقلي من القريات قد بدأت تأخذ حيزاً في توجهات الوزارة في الفترة الأخيرة فبين رؤية لإبعادي عن مركز النجاح وبين رؤية من يريد الاستفادة من خبرتي في مكان آخر قد يحتاج إلى الإصلاح .

وفي خضم ذلك جاءت حادثة ضرب سيارتي المعروف , وحين خطط الجناة ضربي أنا وسيارتي برشاش كلاشنكوف كان هدفهم هو التسريع بنقلي من القريات وإلى أي مكان أو حتى تدمير مستقبلي الوظيفي ؛ ولم يعلموا أنهم كانوا يجدفون عكس التيار , فقد كان مدير عام التعليم بالجوف د.عارف مفضي قد بلغ السن القانونية للتقاعد واتجهت الوزارة وخاصة الجهات المختصة لنقلي إلى منطقة الجوف كمدير عام وقد تم إعداد البديل لي بتعليم القريات عام 1416هـ كي يحل محلي وهو الأستاذ علي الدحيم عميد كلية المعلمين بحائل , وكنت انتظر صدور قرار النقل في أية لحظة حين أحرقت سيارات قضاة المحكمة ومن ثم وضع بعض الجناة مسألة ضرب سيارتي على الطاولة ونفذوها على عجل دون تخطيط أو إدراك أن العملية الإجرامية ستؤدي إلى عكس ما يتمنونه كما أنه سيكون أيضاً عكس ما أتمناه .
ضربت سيارتي بالرصاص وذهب الخبر في كل اتجاه بالمملكة رغم أن الأنترنت لم تكن قد أخذت ذلك الزخم الذي تعيشه منذ فترة , كان وكيل إمارة منطقة الجوف الدكتور سلمان السديري في سهرة بإحدى مزارع مدينة سكاكا , وكان بمعيته العديد من رجال الأعمال هناك , وتناولوا الحديث بالموضوع فبينما كان الأغلبية ببساطة يرون أن العملية سوف تقضي على مستقبلي قال أحدهم : بل إن العملية برمتها ستؤدي إلى بروز غير عادي للرجل .
في الوقت الذي وجل من وجل وفرح ربما من فرح بالخبر كنت في الحقيقة أعرف من وراء الجريمة , كثير من الجهات الأمنية تبحث عن المنفذ وكنت أقول هنا سيكون الخلل أنتم تبحثون عن شخصيات غبية بسيطة بمقدوركم أن تضعونهم بالسجون أو حتى تقطعون أرجلهم وأيديهم من خلاف بأمر الله , ولكن المشكلة الكبرى أن العقل المدبر للجريمة والمخطط والموحي بها طليق وبعيد عن الاتهامات رغم أنني وجهت الاتهام إليه بشكل رسمي وأشرت إليه دون غموض ؛ وتوجهكم نحو المنفذين دون العقل المدبر والموحي بالجريمة سيجعله يستغل أغبياء آخرين لتنفيذ جريمة أخرى ! . ولكن اتجهوا للقبض على المنفذين الذين تم استدراجهم من قبل غيرهم .
جاء الأمير د.سلمان السديري وكيل الأمارة بوصفه محافظ القريات بالنيابة وباشر الأمر, ولكن اتجهت الإمارة إلى قرارات كان أهمها إبلاغ الوزارة أن تبدل قراراتها فالأستاذ الدحيم الذي أعد قراره ليكون بديلاً لي بالقريات أصبح مرشحاً كمدير عام للتعليم بمنطقة الجوف وبقيت مديراً للتعليم بمنطقة القريات لسنتين أخريتين , كانت حجة معالي أمير منطقة الجوف الأستاذ سلطان السديري أن الجناة وبما أنهم يريدون أن يسرعوا بنقل الأستاذ صالح السعدون من محافظة القريات يجب أن يجنوا عكس ما خططوا له , بالنسبة للرجل أخضعنا أعماله كلها للتمحيص ولم نجد عليه أي خطأ ولكن نقله للجوف بمثل هذه الظروف ستجعل الجناة يتوقعون أنهم حققوا مرادهم لذا فالمصلحة العامة تستدعي التضحية بمصالح الأستاذ صالح في سبيل مصلحة المنطقة .
كنا نتناقش أنا وبعض الزملاء خلال فترات متقطعة وكانت العملية برمتها قد جعلت الكثير من النقاش يدور بالمجالس الخاصة وبمجالس الموظفين , وكانت هناك فكرة غالبة من أن هذا الرجل لم ينفعه إخلاصه للبلد عند مسئولي الوزارة ولا مسئولي الأمارة فقد كانت تضحياته قد ذهبت هدراً ؛ وكانوا يلمزون لي بمسألة سيارتي بأن الوزارة اعتذرت عن تعويضي عنها لعدم وجود بنود لتعويضي من خلالها وحين رفعت لمعالي الوزير د.محمد بن أحمد الرشيد كان ساعتها ينظر لي أنني من حزب الثنيان لذا رفض رفع معاملتي للديوان الملكي أسوة بقضاة المحكمة وقال لسكرتيره فليذهب إلى القضاء , فسألت بعض الجهات بالأمارة ووجدت أن الأمارة ليست بأفضل حال من الوزارة وأن الفكرة أن ألجأ إلى القضاء لمطالبة الجناة بالحق الخاص . وكنت أعلم أن القضاء السعودي كالرجل المريض فلا يوجد تأصيل لتفاصيل القضاء حسب القرآن والسنة حسب شريعة الله فالاعتداء على رجل آمن وهو بسيارته وفي ظل بيعة لخادم الحرمين الشريفين دون جريمة تستدعي مثل تلك الجريمة قد تستحق عقاباً يصل إلى حد الحرابة , ولكن الذي حصل أنهم برئوا من قبل رئيس القضاء بعد خمس سنوات ونالوا مكافأة زادت عن نصف مليون ريال من قبل الدولة – عن السنين التي تم فصلهم فيها- الدولة التي لم يستطع مسئوليها أن يعوضوني عن سيارة أعدمت برشاش كلاشنكوف برصاص حارق ؛ كنت أقول للقاضي بمحكمة القريات أنني اشتريت سيارتي بالتقسيط فأنا سخرت عمري ووقتي للناس وللتعليم , وليس لي مصادر رزق إلا راتبي .. وسيارتي ضربت بالرصاص وأعدمت وقد سددت نصف قيمتها للشركة بعد ضربها .. ومع ذلك فقد حكم القاضي بعد أكثر من عشر جلسات وخلال أكثر من سنة ونيف بتغريم الجاني بثمانية آلاف ريال وشيء من هذا ونظر للقضية , فقلت للقاضي لقد نظرت للأمر وكأنه حادث مرور فأنا أشكوك أنت والجناة إلى الله فأنت خصمي معهم.ورفضت الحكم وانسحبت من مثل هكذا قضاء , وقلت كنت متوقعاً حكمك ولكنني أصررت على حضور الجلسات لكي حين أقف أنا وأنت أمام الله أستطيع أن أقول أنني جئته ولم ينصفني !!!.
كانت القضية قد هزت قناعات الكثير من الزملاء والناس من أن الإخلاص للدولة والبلد لم ينفع فلان , كنت أجيبهم القضية مختلفة .. فالوطن ليست سلعة تكتسب وتباع وتشترى .. القضية ليست إن أخذت أعطيت ورضيت وإن لم آخذ انسحبت أو وغضبت و بعت وطنيتي بالرخيص .. هناك ربٌ وضع لنا ميزاناً خالداً ” ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره *ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) وأنا مؤمن أن الدولة عزيزة وقوية وقادرة ولكن المسئول هو الوزير والأمير والقاضي هم قادرون على أن يعرضوا الوضع على صاحب الصلاحية , ولكن حين تكون رؤاهم الشخصية أن كل مدير إدارة هو حرامي , وأن أي من هؤلاء لابد أن يكون مليونيراً , ولذا فإن الأمر لا يستلزم فالقضية تكون خللاً في الأداء , ولكن لن أسقط هذا الخلل في عملهم وتحملهم لأمانتهم على وطنيتي فوطني ليس له ذنب ؛ بل هو يريد منا الإخلاص والتضحية والتفاني , ومع الأسف قد أضرت هذه القضية بمعتقدات الكثيرين , ولكنها والحمد لله لم تزدني إلا إيماناً .
بعد مرور عام ونصف العام بدأت الوزارة تغير من موقفها تجاهي , وبدأت ترشحني لمزيد من الوظائف في مناطق أخرى , طلبني معالي الوزير أ.د.محمد الرشيد لأكون مديراً للتعليم بالقصيم بُعيد ضرب سيارتي بالرصاص , ثم رشحت للعديد من المناطق كمنطقة تبوك والجوف والمدينة المنورة والحدود الشمالية وغيرها ولكن هناك قوة ما كانت تشطب اسمي في كل مرة , أدركت أن هناك خللاً ما ولكنني لم أتبينه , وكنت أتحدث لبعض الزملاء الذين جاؤوا يقولون نحن نعلم أن مثلك لا يهنأ بأن تبقى بالقريات بدلاً من المدينة المنورة , ولكننا سنهنئ أنفسنا أن بقيت معنا .. قلت لهم ” ابحثوا في الأمر هناك خلل ما ..!” لم أكن أعرف ما أنطق به ..! ولم أدري ما الذي أعنيه ..! ولم يفهمني من الحاضرين أحد سوى شخص واحد هو أذكى رجل قابلته بالقريات ذلك هو مهلي بن بغيث العنزي وخلال ثلاثة أيام تمكن من معرفة المشكلة , إنني لا أدين له بوفائه بعيد المدى فحسب ؛ بل إنني مدين لهذا الرجل بالكثير , تمكنت من حل المشكلة التي كنت رغم علمي من أجهل الناس بها ..وخلال ثلاثة أشهر كنت متجهاً للتفرغ للدكتوراه وقد وافقت الوزارة ولكن كل شيء تغير فجأة .
كان مستشار معالي الوزير د.عبدالواحد الحميد قد أبلغه انه سيقضي إجازة عيد الأضحى مع عائلته بمنطقة الجوف / مدينة سكاكا فسأله إن كان سيلتقي بمعالي أمير منطقة الجوف سلطان السديري فأكد له ذلك وصلني من أحد الحاضرين- فيما بعد – أن معالي الوزير قال أبلغ صاحب المعالي سلامي وقل له طالما أن الأستاذ علي الدحيم قد اعتلت صحته فلا يطلب مني أن أقدم له بديل إذا أراد مدير تعليم ناجح يساهم في إصلاح تعليم الجوف فليس عندي غير الأستاذ صالح السعدون . في الوقت الذي تركنا العمل قبل الإجازة وقد أعددت نفسي للسفر إلى عسير لحضور مؤتمر أو لقاء مديري التعليم عام 1418هـ ؛ كان الدكتور عبدالواحد الحميد قد حمل الرسالة للأمير , ووافق معالي الأمير أن يجري معي مقابلة وفي ليلة الدوام جاء موظف من العلاقات العامة بأمارة الجوف وأبلغ والدي بالمسجد أن معالي الأمير يطلب الأخ صالح بكرة الساعة الواحدة بالأمارة .. صدقاً قلقت لأن الأمارة نادراً ما تستدعينا بهذه الطريقة .
ذهبت إلى معالي الأمير صباحاً كان حضوره بالأمارة قبيل الساعة الحادية عشرة بقليل والتقيت به في صالة الاستقبال وسألته إن كان الأمر ضرورياً لأنني لابد أن أكون بطائرة معالي الوزير من مطار الرياض إلى عسير مع وقت المغرب , قال لا الأمر ضروري فيه لقاء أنت والدكتور عبدالواحد الحميد الساعة الواحدة أبلغ العلاقات العامة يتدبرون تغيير حجزك لطائرة العصر وانتظر .
في الساعة الواحدة ظهراً دخلت مكتب معالي الأمير وكان د.الحميد موجوداً , وبعد دقائق من الحديث بالعموميات التفت لي الأمير بجدية وقال : نرى في الحقيقة النجاح اللي حققتوه في تعليم القريات .. وكنا نتمنى لو الأخ الدحيم نجح بمداس المنطقة كنجاحكم بالقريات , ولذا فحبيت أسألك ما هو المشروع الذي يمكنك تقديمه للأخ الدحيم من أجل الوصول بمستوى التعليم هنا أسوة بالقريات ؟ .
حقيقة لم أستغرب السؤال : فأنا أعرف وجهة نظر الأمير تجاهي فهو من كلَّم الوزارة لإبعادي من الجوف عام 1413هـ ..وهو بعد أن أصبحت القريات محافظة تابعة لأمارة منطقة الجوف من أبلغ المسئول بأن أول مهمة يجب أن يتصدى لها البحث عن إبعادي عن القريات ولولا الدعاء لما بقيت .. فقد عمل ذلك المسئول ذاته الذي كان مسألة إبعادي على رأس أجندته عمل على إقناع الأمير سلطان بأن الرجل يسجل نجاحات رائعة .. وأنه يتوسط بإبقائي في العمل هناك لمصلحة العمل .. ثم جاءت مسألة ضرب سيارتي فرأى الأمير أن المصلحة العامة تجعله الآن أكثر من أي وقت مضى يتمسك ببقائي بمحافظة القريات , ثم جرى تغيير كبير على موقفه مني بشكل إيجابي , فحين كانت الوزارة قد أرسلت أحد مستشاري الوزير يسأل معالي الأمير عن إبعادي قال معالي الأمير للمستشار : أنهم دققوا بعملي ولم يجدوا مني أي خطأ لذلك فهم من يريد بقائي . أما الآن بهذا السؤال الذكي فلم يدر بخلدي أن معالي الأمير كان يجري لي مقابلة بقدر ما كنت أعتبر أن الموقف القديم مني تجاه نقلي للجوف ما هو إلا ثابت ومستمر .
فقلت نعم القضية سهلة ولا تحتاج إلى تعقيد , أنا عملت كرئيس توجيه بالمنطقة وأعرف تفاصيل ونقاط الضعف والقوة فيها .. وبينت لمعاليه أني على استعداد أن اجلس مع الأخ الدحيم جلسات عديدة وأضع له مشروع تطوير التعليم بالمنطقة وأنا متأكد من أن أربعة شهور كافية لتنقل المنطقة من الحضيض إلى القمة فالكوادر الموجودة من الوطنيين بالمنطقة هنا أكثر عدداً وخبرة من الكوادر الموجودة عندي بتعليم القريات .. الخلل الموجود بتعليم الجوف هو بالقيادة وإذا أصلحت القيادة فالتعليم سيتم إصلاحه بسهولة .. الخلل كان وما زال موجوداً في أن الرجل غير المناسب يحتل الوظيفة غير المناسبة لحجمه وعلمه وقدراته .. الأخ الدحيم يبدو أنه متخوف من عملية التغيير .. لا إصلاح من دون تغيير .. التغييرات ضرورية والتدوير الإداري ضروري ومعمول به في كل أنحاء العالم , الوظيفة لم توجد من أجل صالح السعدون أو علي الدحيم , لذا فحين أجد رئيس قسم شئون الموظفين أو المالية أو الحركة غير قادر على تسيير وظيفته بمقدوري أن أضعه في قسم آخر يتماشى مع قدراته الضئيلة وأن أبحث عن رجل مناسب يتناسب مع ضخامة المسئولية بتلك الوظيفة فإذا غضب مني فلان لأني غيرت موقعه فسيكون ردي عليه أنت أعطيت الفرصة وقصرت وفشلت وآن الأوان أن نجربك في غيرها وأن نجرب فيها غيرك فالوظيفة ليست لك وليس لك بها صك ولم توضع من أجلك وهي ليست وراثة ورثتها من جدك , وإنما الوظيفة لمن يعطها المهر الحقيقي ومهرها هو العمل والنجاح .
ليس بالضرورة أن أحوله إلى موظف عادي سأجعله رئيس قسم آخر ولكن بمكان يتناسب مع قدراته .. الأخ علي الدحيم قادر على أن يجري تغييرات بالمدارس , فالمدير الضعيف ليس بالضرورة أن يعود معلماً وإنما هذا يمكن نقله كمدير لمدرسة صغيرة يكون قادر على السيطرة والنجاح فيها , وهذا يمكن أن يعمل وكيلاً لمدرسة , وذاك إذا ثبت بتقارير المشرفين أنه غير ناجح ولا يتوقع نجاحه فلماذا يظل أصلاً بالمدرسة ؟ هل افتتحت المدرسة من أن نجد وظيفة مدير لشخص فاشل أم أن الدولة أعزها الله افتتحت المدرسة من أجل مائتي طالب في عملية تربية وتعليم ولذا فالفاشل يجب أن يقال له تنحَّ مقابل شخص ناجح لأنه من الظلم أن تصرف الدولة مليارات على التعليم وتفشل الخطط والبرامج والتربية والتعليم بسبب عدم وضع الرجل المناسب بالمكان المناسب .
حقيقة مضى الحديث لمدة ساعة بينما لم ينبس الدكتور عبدالواحد الحميد ببنت شفة بينما كان معالي الأمير مستمعاً بإنصات شديد ولكن أيضاً بنظرات ثاقبة وذكاء .. عجبت حين كنت أنظر للدكتور الحميد أثناء الحديث أنه كان مسروراً لما يسمع وكأنه متوقع لكل كلمة قلتها .. بل ومستمتع بها . وجدت معالي الأمير يهم بإنهاء الجلسة وتوقف قائلاً : المهم إذا تسلم الواحد منا المسئولية ألا يصفي الحسابات ! .. وجدت أن ذكائي كله قد توقف هنا فالكلمة لم أجد لها أي مسوغ في كل ما جرى ولذا لزمت الصمت هنا ولم أجب فكأن الكلمة لا تعنيني !.
قال هيا الآن تتغدى معي أنا والدكتور عبدالواحد حاولت التملص فما ترك لي فرصة .. وبعد الغداء ودعني معاليه د.عبدالواحد وأنا وشد على يدي وقال إذا قابلت معالي الوزير بالمؤتمر قل له معالي الأمير يسلم عليك .. لم أستوعب ما يجري كانت ألغازاً .
ركبنا سيارتينا ومضينا خارج منزل أمير الجوف , فلحقت بالدكتور عبدالواحد قلت له ما الذي كان يجري؟ ! كان هناك الكثير من الألغاز التي لا يمكن لي تحليلها ! قال معذرة كنت تمنيت لو أبلغتك ولكنني وجدت أنني سأكون كمن أفشى سراً ولذا فما استطعت أن أتصل بك هذا أولاً , وثانياً كنت واثقاً بقدراتك بأنك ستتجاوز المقابلة بكل يسر لما عرفته عنك وعن قدراتك .. وقد كنت كما أتوقع ! قلت يعني ؟ قال القضية هي مقابلة شخصية أما فهمت قول معاليه حين قال سلم لي على معالي الوزير ! كان قد قبل في نهاية المقابلة أن تكون مديراً عاماً للتعليم بمنطقة الجوف ولولا أنني علمت قبوله لك ما تحدثت في ذلك.. شكرته وبينت أنني لا ألومه على أنه لم يبلغني ولكني فوجئت بأشياء لم استطع تحديد معناها فلحقت بك .
اتجهت نحو عسير كانت مجموعة الإخوان المسلمين تقبض على تلابيب الوزارة يوماً بعد يوم , وكان الوزير قد تخلص من د.عبدالعزيز الثنيان منذ أسابيع وبدأ يستعد لترشيح مدير عام التعليم بجدة كوكيل للوزارة وكانت تحليلات البعض قد ذهبت إلى أن ذلك يعني أن قيادة الإخوان ستنتقل إلى أيدي مجموعة المنطقة الغربية , بما تمثله تركة عقلية الروتين العثمانية – المصرية من ثقل قاتل سيجثم على صدور رجال التربية في بلادنا وبما سيعنيه أن الحرب لن تأخذ طابعاً فيه شيء من الحياء ؛ بل ستكون حرباً مكشوفة ضد كل من هو ليس تابعاً لهم .. ذكرت واحداً من المواقف التي جمعتني بوكيل الوزارة المنتظر وكلينا على طرفي المائدة , وكيف كانت نظراته متوعدة بتصفية خاصة لي من قبله .
لقد بدأ يغير بالوزارة وينحى بها نحواً من ديكتاتورية بغيضة , ففي إحدى جلسات المؤتمر كان الدكتور الرائع فوزي بنجر ممثلاً لكلية التربية بجامعة أم القرى وطلب المداخلة .. وكانت مداخلته تقول إن الوزارة قد بدأت تعتمد على تغييرات كبيرة في مديري التعليم وهو شيء إيجابي , ولكن هؤلاء المديرين في الغالب يستلمون أعمالهم دون خبرة سابقة لذا فيرى المتحدث (د.بنجر) أن تقوم الوزراة بتنظيم دورات خاصة لمديري التعليم الجدد .. كان اقتراحاً رائعاً أثنى عليه كثير من مديري التعليم بهز رؤوسهم .. ولكن خضر القرشي مال إلى أذن د.الرشيد معالي الوزير فتجهم وجهه , وحمدنا الله أنه لم يقل ما قاله بعد الجلسة أثناء الجلسة فقد طلب فوزي بنجر وكنت قريباً منه أحدثه عن روعة اقتراحه فإذا بمعالي الوزير وقربه القرشي وبنبرة حادة ونظرات أكثر حدة يهاجم فوزي بنجر على اقتراحه وكان منطقه من أنتم بالجامعات لكي تدربوا مديري التعليم ؟! في الوقت الذي كان د.بنجر مذهولاً من شدة الهجوم وكانت نظرات القرشي تقول لبنجر أنا وراء ما يجري حتى اتهم الأخير د.خضر مباشرة بأنه كان وراء تغيير موقف معالي الوزير الذي كان قد هز رأسه موافقاً على الاقتراح حين سمعه لأول وهلة . كنت أنعي لنفسي ما سيجري للوزارة إن صدقت الإشاعات من أن خضر القرشي سيخلف الثنيان فالفرق بين أسلوب الاثنين كالفرق بين الثرى والثريا ؛ لقد كان الدكتور عبدالعزيز الثنيان ليس أصيلاً بتعامله فحسب ؛ بل لقد كان رجل دولة بغض النظر عن أي أشياء أخرى .
في شوال عام 1419هـ قابلني صديق قديم قال رأيت بك رؤيا , قلت خيراً إن شاء الله .. قال تعبيرها ستأتينا مديراً عاماً للتعليم بالجوف , قلت أنا الآن سيوقع قرار تفرغي للدكتوراه قال لن يوقع . قلت وافق معالي الوزير هو في طريقه للتوقيع قال سيؤجل . قلت أعتقد خلال أسبوعين ستجدني في بريطانيا , قال خلال شهرين أو ثلاثة سأراك بمكتب مدير التعليم بالجوف , ذهب وأنا أولاً لم يدخل في رأسي شيء مما قاله . ثانياً أدهشني ثقته برايه إلى هذا الحد .
وبعد ثلاثة أشهر , وفي 20/1/1419هـ صدر قرار معالي الوزير بتكليفي مديراً عاماً للتعليم بمنطقة الجوف إلى جانب عملي كمشرف على تعليم القريات , فخصصت أربعة أيام للإدارة الجديدة ويوماً واحداً لإدارتي التي كنت مطمئناً أنني سأسير العمل فيها من خلال التلفون فقد أعددت كوادرها على المصداقية والأمانة طالما كنت مديراً لهم وكنت أثق بهم ثقة كبيرة , بينما كنت محتاجاً إلى إصلاح تعليم الجوف وفق المشروع الذي كنت قد قدمته لمعالي أمير منطقة الجوف تنفيذاً دقيقاً . حزمت أمتعتي إلى مسقط رأسي ولكن بقدر فرحة كثير من الناس بقدر ما كانت السماء قد سقطت على رؤوسهم .. ومع ذلك قابلوني بالحب والترحيب والقبل . فعلمت أن هذه سنة الحياة . فمن يقبلك اليوم يجب عليك ألا تستغرب إذا طعنك من الخلف غداً , كان هذا الموقف قد عرفته قبل خمس سنوات وكما قال الشاعر :
وزهدني في الناس معرفتي بهم
وطول اختباري صاحبا بعد صاحب
فلم ترني الأيام خـلًّأ تسـرني
مباديه إلا سـاءني في العـواقب
ولا قلتُ أرجوه لكشف ملمة
من الدهر إلا كان إحدى المصائب
ومع ذلك فقد شجعتهم لنبدأ البناء في بلادنا , فنحن قادرون أن نتوحد وقادرون أن نعمل ونبدع ونصنع المستحيل .
د.صالح بن محمود السعدون
مدير عام التعليم الأسبق بمنطقة الجوف .

648

الكاتب د.صالح السعدون

د.صالح السعدون

د.صالح السعدون مؤرخ وشاعر وأكاديمي / لدينا مدرسة للتحليل السياسي غير مألوفة..

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة