معركة وادي بسل بين الدولة السعودية الأولى والنظام الدولي الجديد1/3

معركة وادي بسل بين الدولة السعودية الأولى والنظام الدولي الجديد1/3
الجزء الأولالممْلكَة العَربيَّة السَّعوديَّة
جامعة الحدود الشمالية
كلية التربية_ قسم الاجتماعيات

معركة وادي بسل عام 1230هـ ونتائجها
على الدولة السعودية الأولى
إعداد :
د. صالح بن محمود السعدون
رئيس قسم الاجتماعيات بكلية التربية والآداب بعرعر

معركة وادي بسل بين الدولة السعودية الأولى والنظام الدولي الجديد1/3د.صالح السعدون
المقدمة :
تتضمن هذه الدراسة معركة وادي بسل ؛ فيما بين الطائف وتربه ؛ بين قوات التحالف بقيادة محمد علي باشا والقوات السعودية بقيادة فيصل بن سعود , في معركة حشد لها الطرفين أقصى طاقاتهم لخوض معركة فاصلة ؛ وقد أطلق الباحث مصطلحاً جديداً على القوات التركية أو المصرية أو قوات محمد علي باشا -كما يطلق عليها كثير من المؤرخين – ؛ وهو ” قوات التحالف ” وذلك لأن تلك المسميات لا تنطبق على تلك الجيوش التي قاتلت جيوش الدولة السعودية الأولى بأي حال من الأحوال ؛ ونظراً لاستخدام مصطلح “قوات التحالف ” ؛ فكان لزاماً أن تتضمن هذه الدراسة من خلال إفراد فصل من هذه الدراسة هو بالأصل ملخص لبحث علمي حول الموضوع ؛ لتفسير هذا المصطلح الذي استخدم في عصرنا الحالي كثيراً ؛ لكنه للمرة الأولى يستخدم على الحرب في هذه المنطقة في ذلك العصر أوائل القرن التاسع عشر الميلادي .
وتُعد معركة وادي بسل ؛ من أهم المعارك المصيرية التي حددت مستقبل الدولة السعودية الأولى ؛ فقد كانت الدولة السعودية تنافح وتكافح الاعتداء الأجنبي ؛ الذي فرض عليها من قبل قوى دولية وإقليمية ومحلية , وكانت قد خسرت الحجاز ؛ ولكن رغم تلك الخسارة , فقد كانت قواتها بقيادة طامي بن شعيب وغيره من القادة السعوديين كغالية الوهابية و بخروش وآخرين ؛ تصول وتجول مابين عسير إلى القنفذة ومن تربة وحتى مدينة جدة ذاتها ؛ بينما محمد علي باشا موجود في الحجاز , يتسنَّمُ هرم القيادة العسكرية ضد الدولة السعودية ؛ أي أن القوات السعودية كانت لا تزال تمتلك زمام المبادرة حينئذٍ ؛ ولكن بعد معركة وادي بسل فقدت الدولة السعودية كل شيء ؛ بداية من القادة العظام ذوو الخبرة والتجربة في السياسة والحرب , والذين أسروا وأرسلوا إلى إستانبول أو قتلوا على يد محمد علي باشا بالحجاز .
ولم تكن الفاجعة على مستوى القادة فحسب ؛ وإنما على مستوى الجيش أيضاً فرغم أنه جيش كبير , يتراوح عدده على اختلاف الروايات بين ثلاثين وأربعين ألف مقاتل ؛ إلا أنه قد انفرط عقده ونظامه بعد المعركة , ولم يعُد يواجه محمد علي باشا أية تحديات كبرى ذات قيمة بعد تلك المعركة ؛ مما مكن قوات التحالف التي يقودها محمد علي باشا من احتلال كافة إقليم الحجاز والدرع العربي وعسير بسهولة ويسر آنئذٍ .
ولذا فإنه مما يثير الدهشة أن المؤرخين السعوديين والعرب ؛ قد أهملوا شأن هذه المعركة وتفاصيلها المهمة ؛ رغم أهميتها الكبرى في تغيير مجرى الحرب بل ومستقبل الدولة السعودية ذاتها , فلم يعطِ مؤرخينا هذه المعركة إلا أسطراً لا تتجاوز الثلاثة ؛ بل وربما اختصرها البعض في جملة أو جملتين ؛ ولعل بوركهارت وهو مؤرخ سويسري معاصر للمعركة ذاتها- حيث كان بمكة المكرمة ساعة وقوعها- هو المؤرخ الوحيد الذي كتب عن المعركة بإسهاب ؛ ولكن من جانب رأي واحد , هو ما شاهده أو سمعه في الحجاز , دون أن يتمكن من نقل ما حدث بالمعركة من زاوية أو وجهة نظر الجيش السعودي .
وتهدف هذه الدراسة إلى دراسة عدد من الفرضيات والأسئلة التي حاولت الدراسة أن تجيب عليها حول المعركة , فهل كانت المعركة فاصلة إلى الحد الذي تنتج عنه هذه النتائج الخطيرة ؟ و كيف هُزم الجيش السعودي ؛ وهو يمتلك أهم مقومات النجاح والنصر ؛ وأهمها القيادات العسكرية ذات التجربة الكبيرة خلال حروب ومعارك استمرت لأكثر من ثلث قرن ؟ ؛ إلى جانب الحماس منقطع النظير المتوفر لديها لخوض معركة فاصلة تنهي الصراع وفق خطط جيدة ؟ , مع أهمية ما لديهم من تجارب ناجحة ضد قوات التحالف التي يقودها محمد علي باشا في كل من معركة وادي الصفراء و القنفذة و تربه أو حتى مهاجمة أطراف مكة وجدة ذاتها ؟ , إضافة إلى أن تلك القيادات قد اختارت الموقع العسكري المناسب لها في وسط قوات العدو ومعسكراته ؛ بحيث أن مواقع الجيش السعودي قد تم اختياره بعناية يجعل من المستحيل لجيش يمتلك مثل ذلك الموقع أن يتعرض لهزيمة سهلة ؟.
وما هي الأسباب الحقيقية للهزيمة السريعة ؛ حيث لم تستمر المعركة معها إلا ليومين فقط ؟ وكيف انفرط عقد الجيش السعودي مباشرة بعد المعركة ؛ بحيث عادت كل فرقة إلى بلدانها ؛ بدلاً من التجمع من جديد لقيادة المقاومة في وجه قوات التحالف قرب تربة في معركة جديدة ؟ ؛ وهل كانت القيادة السعودية بعد وفاة إمامها الكبير سعود بن عبدالعزيز ؛ قادرة على مواجهة التحديات بموقف موحد ؛ أم أن هناك من الأسباب السياسية غير المباشرة ؛ مما جعل من الهزيمة في هذه المعركة أمراً ممكناً لجيش بمثل هذا المستوى في الجبهة العسكرية السعودية ؟!.
وطالما أن الجيوش العثمانية في العراق والشام وجيش ولاية مصر من الأرناؤوط وسواهم ومن معهم ؛ وهو الجيش الأول للتحالف ؛ والذي جاء إلى معركة وادي الصفراء ؛ كانت أضعف من قدرات الجيش السعودي حتى مع تقدم أسلحتها وتمت هزيمتها دون جهد كبير من الجيوش السعودية ؛ فما الذي تغيَّر لتنتصر تلك القوات التي قادها محمد علي باشا في وادي بسل هذا النصر الكبير ؟ .
وقد قسمت هذه الدراسة إلى خمسة فصول إلى جانب الخاتمة ؛ فبعد المقدمة ؛ عالج الفصل الأول ؛ أطراف الحرب في جزيرة العرب في أوائل القرن 19م , وطبيعة الصراع بين الدولة السعودية الأولى وأعدائها الذين يمثلهم محمد علي باشا , وقد حاول الباحث من خلال هذا الفصل توضيح الخطوط الحمراء للنظام الدولي الجديد- آنذاك – الذي تشكل قبيل أو بُعيد قيام الثورة الفرنسية , ثم الإطاحة بنابليون عام 1814م ؛ بحيث أن طبيعة الصراع لم تكن مجرد صراع بين الدولة السعودية والدولة العثمانية وواليها بمصر على الحجاز , كما تعوَّد مؤرخينا على طرحه في الفترات الماضية ؛ وإنما هو أعمق بكثير ؛ ذلك أن الدولة السعودية كان لديها مشروعها السياسي والاجتماعي والديني المناقض تماماً لروح ومشروع الثورة الفرنسية وأهدافها وأهداف النظام الدولي الجديد الذي أصبح يقود السياسة والاقتصاد على مستوى أوروبا والعالم ؛ ولذلك فإن الصراع كان بين نظامين دوليين متناقضين الأول وراءه القوى الدولية الكبرى السياسية والعسكرية وقادة القوى الاقتصادية في العالم ؛ ومن وراءهم من له طموحات كبرى في شق قناة السويس واستعمار فلسطين ؛ والثاني هو نظام إقليمي في منطقة الشرق العربي يحاول قادة الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى بناءه ؛ و يريد إجراء تغييرات متشددة في هذه المنطقة الحيوية من العالم بما يخدم مصالح الأمة وفق رؤية أولئك القادة ووفق برنامجهم الخاص والمناقض تماماً ؛ بحيث يتقاطع ويتعارض مع طموحات وأهداف القوى الكبرى خاصة فيما يتعلق بموضوع وحدة منطقة الشرق العربي وموضوع فلسطين وكذلك موضوع شق قناة السويس .
أما الفصل الثاني ؛ فقد استعرض تطور الأحداث في جبهات القتال قبيل وفاة الإمام سعود الكبير ؛ وفي عهد الإمام عبدالله بن سعود الكبير بين جبهة التحالف من جهة وبين الدولة السعودية من جهة أخرى .
بينما تناول الفصل الثالث ؛ معركة وادي بسل من دراسة الجبهتين جبهة التحالف والجبهة السعودية من الداخل ؛ من حيث توجهات القيادة السياسية والقيادة العسكرية , واتجاهات الرأي العام في الجبهتين قبيل المعركة ؛ إلى جانب الحرب النفسية التي مارسها قادة الجبهتين ضد الآخر , حتى مواجهة الجيشين لبعضهما في أرض المعركة .
في حين ناقش الفصل الرابع ؛ مسألة اختيار أرض المعركة بالنسبة للطرفين , وميزات موقع كل منهما , وطبيعة سير المعركة في وقت قصير للغاية قياساً ؛ بضخامة المعركة وضخامة عدد الجيشين , وكيف حدثت الهزيمة ومصير الجيش المنهزم ؛ بتحليل متعمق وموضوعي محاولين الإجابة على التساؤلات الكبرى التي فرضتها نتائج المعركة .
أما الفصل الخامس فقد تحدثنا فيه عن النتائج المباشرة وغير المباشرة لمعركة وادي بسل , سواء على مستوى جزيرة العرب أم على مستوى المنطقة والعالم .
أما الخاتمة ؛ فقد عالجت الخاتمة النتائج التي توصل لها البحث على الجبهتين السعودية من جهة كجهة مهزومة وجبهة التحالف من جهة أخرى كجهة منتصرة .
ونظراً لشح المعلومات في المصادر والمراجع التي بين أيدينا عن المعركة تحديداً ؛ بحيث أن نتائجها السيئة على الجبهة السعودية كانت سبباً – ربما – في عزوف المؤرخين المحليين عن الحديث التفصيلي عنها ؛ إلى جانب شح الوثائق إن لم تكن شبه معدومة ؛ فقد حاولت معالجة الموضوع من خلال النصوص التاريخية المتوفرة بالمصادر والمراجع عن المعركة ؛ و بروح محايدة سالكاً في ذلك الوسطية في الأخذ بالآراء حول القضايا المتعددة قدر الإمكان , ومحاولاً تأييد ما أذهب إليه من طروحات بأدلة وإثباتات تعتمد في الغالب على الروايات المتوفرة القريبة من المنطق وبعقلانية كبيرة , كما حاولت تنويع المصادر التي اعتمدت عليها من المصادر والمراجع السعودية المحلية والعربية والأجنبية .
ولعلي في نهاية هذه المقدمة آمل أن أكون قدمت شيئاً مفيداً للبحث التاريخي عن الدولة السعودية الأولى , في تاريخ مفصلي للأمة العربية الإسلامية وفي موضوع هام يمكن أن يكون مثيراً من ناحية ؛ ومن ناحية أخرى موجهاً الأنظار إلى ما فيه من العبرة التاريخية البالغة التي يستفيد منها كل من قرأ البحث .

د. صالح السعدون
سكاكا الجوف

الفصل الأول :
أطراف الحرب في جزيرة العرب في أوائل القرن 19م :
يرى العديد من المؤرخين إلى أن هذه الحرب لم تكن بين الدولة العثمانية أو واليها محمد علي باشا من جهة وبين الدولة السعودية من جهة أخرى ؛ وأنه حين طُلِب من محمد علي باشا إخماد حركة الإصلاح بجزيرة العرب فإنه قد بدأت ((حلقة جديدة من حلقات الصراع على السلطة ؛ وهو صراع كانت أطرافه : مصر والسلطنة العثمانية والأشراف والوهابيون والإنجليز )) (1) .
وفي تلك الفترة من بداية القرن التاسع عشر الميلادي كانت منطقة الشرق العربي قد أصبحت في قلب المخططات الإستراتيجية للدول الكبرى , كما أن الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر (1789م ) قد أفرزت قوى تتحكم بالقرار السياسي للحكومات في بعض الدول الأوروبية مبشرة – كما حاول نابليون في بداية حكمه – بمبادئ المساواة والأخوة وخاصة بين الشعوب الأوروبية واليهود, ولعلنا نقف أمام آراء دزرائيلي رئيس الوزراء البريطاني من أصل يهودي بتمعن حين قال : (( إن الحكومات لا تحكم ، إنها تراقب جـهاز الحكم … لأنها هي نفسها واقعة تحت رقابة اليد الخفية ))(2) .
وقد كانت معظم الحروب التي خاضتها الثورة الفرنسية من أجل تغيير متشدد للجغرافيا والأنظمة السياسية في أوروبا والعالم لإخضاع العالم لذلك ” النظام العالمي الجديد” التي كانت تسعى لتأسيسه وتأصيله , كمصطلح بدأ استخدامه في عام 1776 م ؛ حيث نقشت هذه العبارة على شعار الاستقلال للولايات المتحدة , كما نقشت أيضاً على عملة الدولار فئة دولار واحد مؤرخ بتلك السنة بالأرقام اللاتينية تحت قاعدة الهرم ( Novus ordo seclorum )(3) ؛ ومع ذلك فإنه منذ الثورة الفرنسية ؛ فأن واقع السياسة الدولية بدا وكأن هناك من يوجهها من وراء ستار وفق ” نظام دولي جديد ” , في وقت كانت الدولة السعودية الأولى تحاول أن تقيم نظاماً إقليمياً جديداً في جزيرة العرب ثم في الشرق العربي (جزيرة العرب والشام والعراق ) وكما يصف تلك المفارقة جيل كيبيل وهو يتحدث عن مؤسس ما أسماه بالوهابية (( كان يحيا في وسط المملكة العربية السعودية منتصف القرن الثامن عشر الهجري ؛ وكان معاصراً لعصر الأنوار الأوروبية والثورة الفرنسية اللذين تبديا مفترقين عن تفكيره افتراقاً كبيراً )) (4).
ومن هذا البعد السياسي – التاريخي الجديد بدأت الثورة الفرنسية في صراع مع القوى الكبرى بما فيها تلك القوى المتصارعة أو الخاضعة للنظام الدولي الجديد كبريطانيا والنمسا ؛ وهو خلاف داخل إطار ذلك النظام , وإن كان قد حاول هذا الخلاف أو الصراع – في بعض الأوقات – أن ينحى منحى خاصاً ومتعارضاً مع راسمي النظام الدولي الجديد حتى تمكنوا من القبض على نابليون ونفيه بعد واترلو 1814م ؛ و على أية حال فإن محاولة نابليون احتلال الشرق العربي ابتداء من مصر فعكا فالقدس أعطى الشرق عامة والطريق إلى الهند أهمية خاصة لدى الدول الاستعمارية الكبرى المتنافسة وفق رؤية ومبادئ هذا النظام العالمي الجديد.
وكانت بريطانيا تخشى بعد مغامرة نابليون في مصر على طرق التجارة والبريد مابين البحر المتوسط والهند والتي تمر بالخليج العربي والكويت أو البصرة عبر الفرات إلى حلب وأنطاكية أو البحر الأحمر – السويس – الإسكندرية , كما بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر مذكرات ودراسات تبين لوزارة الخارجية الفرنسية أهمية شق قناة بحرية بين البحرين المتوسط والأحمر (5)؛ مما جعل تلك المنطقة تصبح ذات أهمية كبرى ؛ ومما زاد من أهميتها هي تلك المشروعات السياسية التي ظهرت ما بين 1799م -1841م في فرنسا وبريطانيا ؛ أي منذ غزو نابليون لفلسطين حتى ما بعد معاهدة لندن عام 1840م حول إقامة ” مملكة القدس اليهودية القديمة ” أو إقامة ” استيطان يهودي زراعي بفلسطين ” أو إقامة حاجز بشري يمنع اتحاد العرب في مصر مع بقية العرب في آسيا وخلافها من تلك المشاريع التي بدا أن من يغذيها هم راسمو النظام الدولي الجديد كما سيبيِّن البحث في هذا الفصل .
ومن هنا فقد حاولت بريطانيا من خلال حملة فريزر على الإسكندرية عام 1807م أن تحتل مصر ؛ ولكنها أجبرت على الخروج وفق اتفاق غامض وغير مكتوب مع والي مصر الجديد محمد علي باشا؛ ذلك الاتفاق الذي وافق من خلاله الباشا – كما يرى القنصل الفرنسي بالقاهرة – (( بأنه سوف يزود الإنجليز بالوسائل التي تمكنهم من تموين مالطة وأساطيلهم في البحر الأبيض المتوسط ؛ فضلاً عن تأمين حرية العلاقات التجارية بين انجلترا ومصر ؛ وحماية التجارة الإنجليزية في هذه البلاد , وتسهيل المواصلات مع الهند وغير ذلك , وإنه ليبدو لي أن مثل هذه المعاهدة عند إبرامها سوف تحقق الأغراض التي توخاها الإنجليز من إرسال حملتهم على مصر ( أي حملة فريزر ) أن لم يفُق أثرها من هذه الناحية كل ما كان يتوقعه الإنجليز من إرسال هذه الحملة )) ؛ هذا حسب رأي قنصل دولة أوروبية منافسة لبريطانيا هي فرنسا .
ويرى د. الغنام أنه مع أن المعاهدة لم توقع بمثل هذا النص إلا أن التفاهم طال كل تلك النقاط , وقد أكد فريزر عن صدق الباشا حيال هذه التفاهمات برسالة منه إلى الجنرال مور حيث قال ” …أبسط لكم … فحوى محادثة جرت بين باشا مصر .. ولدي ما يجعلني أعتقد … من اتصالات خاصة كثيرة كانت لي معه , بأنه جاد وصادق فيما يقترحه , … فقد أبدى محمد علي باشا والي مصر , رغبته في أن يضع نفسه تحت الحماية البريطانية , ووعدنا بإبلاغ مقترحاته إلى الرؤساء … لإبلاغها إلى الحكومة الإنجليزية للنظر فيها … ويتعهد محمد علي من جانبه بمنع الفرنسيين والأتراك أو أي جيش تابع لدولة أخرى من الدخول إلى الإسكندرية من طريق البحر ويـعد بالاحتفاظ بالإسكندرية كصديق وحليف لبريطانيا العظمى , ولكنه لا مناص له من انتظار أن تعاونه انجلترا بقواتها البحرية إذا وقع هجوم عليه من جهة البحر ؛ لأنه لا يملك سفناً حربية …” )) , وقد توصل الطرفان على الأقل لتفاهم وانسحب الإنجليز من الإسكندرية . فبعدئذ أبعد العلماء الذين أوصلوه إلى الحكم ثم ضرب المماليك عام 1811م / 1226هـ حتى أصبح حاكم مصر المطلق (6).
ويتفق د. أباظة في الرأي من أن محمد علي كان يتقرب من بريطانيا وأنه قام بإمداد المراكز البريطانية في البحر المتوسط بالقمح والمؤن اللازمة لها أثناء الحرب النابليونية : (( وأن محمد علي باشا كان يتمنى أن يعمل متعاوناً مع البريطانيين في إطار نوع من التحالف ))وأن كثير من التجار البريطانيون الموجودين في المراكز التجارية في المشرق كالإسكندرية وبغداد وبومباي لم يشاركوا بالمرستون مخاوفه تجاه محمد علي التي ليس لها ما يبررها ؛ وأنهم يرون (( أنه كان في إمكان محمد علي إذا تلقى المساعدات البريطانية أن يبني في ظل الدولة العثمانية قوة تماثل قوة شركة الهند الشرقية التي بناها البريطانيون في ظل إمبراطورية دلهي )) مما (( سيشيع الطمأنينة والأمن ويساعد في رواج التجارة وازدهارها )) (7).
ولعل الأرجح أن محمد علي باشا كان مستعداً أن يكون عميلاً لكل الدول الكبرى الخاضعة لراسمي النظام الدولي الجديد سواء كانت بريطانيا أو فرنسا كسياسة انتهازية ؛ وذلك من أجل تلبية طموحاته ومشاريعه السياسية في مصر والمنطقة ؛ فهو وإن كان مستعد لتنفيذ أي أجندة سياسية أو عسكرية تطلبها منه بريطانيا العظمى ؛ فإنه أيضاً لديه الاستعداد ذاته لتنفيذ كل الأجندة التي تطلبها منه فرنسا ؛ ولعل راسمي النظام الدولي الجديد كانوا يريدون من قوة محمد علي باشا ألا تصطدم مع مخططاتهم تجاه فلسطين وقناة السويس , وكانوا على استعداد أن يدعموه شرط ألا تصطدم طموحاته مع مخططاتهم ؛ ومن هنا جاء أعضاء جمعية السان – سيمونيه ليطلبوا منه بإلحاح الموافقة على شق قناة السويس بتمويل دولي على أن تفصل عن مصر ؛ وأن يوافق على استعمار يهودي زراعي بفلسطين .
وإلى جانب ذلك كله فقد عُرض على محمد علي باشا لكي يوازن بين مصالحه وبين مصالح الدول الكبرى أن يمد قوته من الجزيرة العربية ومصر والسودان إلى طرابلس (ليبيا) وتونس والجزائر من خلال مشروع مشترك بينهما ؛ ووافق عليه وقدم مع موافقته مجموعة من الشروط من بينها (( أن تقدم فرنسا سفناً حربية ومدافع ثقيلة وأن تتكفل بتمويل الحملة )) ورغم أن فرنسا وافقت على كل شروطه ؛ إلا أنه في نهاية المطاف وجد أن القيمة الإستراتيجية لبلاد الشام أهم من القيمة الإستراتيجية لشمال أفريقيا, وعلى كل الأحوال فإن هذا العرض الفرنسي- كما يقول د.جمال حجر – (( يعكس مدى ثقة فرنسا في قوة محمد علي العسكرية , وربما أرادت فرنسا أن تستخدمه بنفس الطريقة التي استخدمته بها الدولة العثمانية في حروب الجزيرة واليونان ))(8) ؛ ولكن حين رفض الباشا إلا أن تتعارض مشاريعه مع مشروعات راسمي النظام الدولي الجديد بالمنطقة ؛ تم تحجيمه وإعادته من خلال معاهدة لندن 1840م إلى حدوده الطبيعية ؛ وهي نفس السبب الذي أعلنت الحرب من أجله ضد الدولة السعودية لمنعها من تكوين إمبراطورية عربية في هذه المنطقة تتناقض مصالحها مع مصالح النظام الدولي الجديد.
ومن هنا فالسعوديون تجاوزوا الخطوط الحمراء لذلك النظام حين حاولوا إجراء تغييرات بالنظام الإقليمي القائم آنذاك بمنطقة الشرق العربي دون التشاور مع القوى الكبرى أو موافقتها؛ ليس بالاتجاه الذي يريده راسمو النظام الدولي الجديد , وإنما باتجاه معاكس تماماً كما ذكر جيل كيبيل بأن تفكير منظريهما (( تبديا مفترقين …افتراقاً كبيراً ))؛ بحيث كانت تحركات الدولة السعودية الأولى ونشاطها العسكري بالشرق الأوسط تتجاوز ثلاثة من الخطوط الحمراء وهي :
1) عدم السيطرة على طريق البريد الصحراوي والتجارة بين الخليج العربي والشام وهو ما يتعارض مع مصالح بريطانيا خاصة ؛ وقد قامت بريطانيا بإجراء محادثات مع الدرعية حول هذا الأمر حيث تمت تسوية بعض الخلافات حول هذه القضية , فقد كان يتم احتجاز حاملي البريد دون أن يفض أختام الإرساليات التي يحملونها ؛ ويرى د. عمر عبدالعزيز عمر أن الإنجليز شاركوا الدولة العثمانية بالتشهير بالدولة السعودية وتشويه مبادئ الحركة الإصلاحية (( لأن أي اضطراب يصيب بلاد العرب يهدد طريق تجارتهم إلى الهند )) (9) .
2) عدم توحيد الشرق العربي من جهة بأقاليمه الثلاثة جزيرة العرب والعراق والشام ؛ و من جانب آخر منع توحيد عرب آسيا من جهة مع عرب أفريقيا من جهة أخرى ؛ ذلك الأمر بالغ الخطورة على مشروعات الدول الكبرى والنظام الدولي الجديد , وهو ما يسخر منه دافيد فرومكين حين يقول (( إن الروايات الرسمية الروسية والفرنسية لما كانوا يفعلونه .. في الشرق الأوسط كانت – وهذا ليس بالأمر غير الطبيعي – من عمل الدعاية . والروايات الرسمية البريطانية – بل والمذكرات اللاحقة التي كتبها المسئولون المعنيون – لم تكن صادقة أيضاً … فقد سعوا لإخفاء دس أنوفهم في الشئون الدينية الإسلامية , وللتظاهر بأنهم دخلوا الشرق الأوسط بصفتهم أولياء أمر الاستقلال العربي – وهذا الاستقلال قضية لم يؤمنوا بها في الواقع (10) .
3) عدم الاقتراب من فلسطين أو صحراء سيناء بما في ذلك موقع قناة السويس المفترض من أية قوة كبرى أو أي قوة إقليمية بمصر أو جزيرة العرب .
هذه الخطوط الحمراء الثلاثة تشابكت مع مصالح الدولة السعودية الأولى ؛ فقد اتسعت الدولة السعودية الأولى في عهد إمامها الثالث سعود الكبير , وأصبحت تهدد باتساعها العالم بإطلالة العرب التي مضى عليها أكثر من إحدى عشر قرناً حين أسقطوا أكبر إمبراطوريتين عالميتين آنذاك الفرس والروم , لقد وصلت القوة العربية السعودية من الزاوية القصوى في عمان بين خليج عُمان والبحر العربي من ناحية الجنوب الشرقي ؛ أي مدينة الحد , كما اشرفوا على مدينة عدن فيما بين البحر الأحمر والبحر العربي من ناحية الجنوب الغربي , أما في الشمال الشرقي فقد لامسوا نهر الفرات حتى بادية مدينة حلب شمالاً في الشمال السوري ؛ بينما وصلوا إلى ريف دمشق وحماة و دمشق و حوران في العمق السوري , وفي الجانب الشمالي الغربي ؛ فقد وصل القائد السعودي سالم بن بلال الحرق إلى البحر المتوسط ؛ حيث نقطة ما بالقرب من عسقلان أو غزة في فلسطين ؛ ولعله إذا كان التأثير السياسي والعسكري قد وصل إلى تلك البقاع ؛ فإن التأثير الثقافي والديني والاجتماعي قد امتد إلى بقاع بعيدة من العالم الإسلامي ؛ فقد نقمت بريطانيا على الدولة السعودية (( لأن بعض مسلمي الهند قد اتصلوا بالحركة [الإصلاحية [بنجد] في مواسم الحج وبدأوا عند عودتهم إلى وطنهم يدعون دعوات إصلاحية مشابهة )), ولعل سيطرة الدولة السعودية على موانئ الخليج الغنية بما في ذلك تجارة الهند مع أسواق البن في اليمن إلى جانب طرق التجارة بين العراق والخليج من جهة والشام من جهة أخرى يجعل من إمكانية احتكار الدولة السعودية لتجارة الشرق وسيطرتها المطلقة عليها أمر ينطوي عليه الكثير من المخاطر (11).
فأما بالنسبة للخط الأحمر الأول فالدولة السعودية أعلنت لمندوب والي بغداد سياسة جديدة عام 1214هـ حين قال سعود بن عبدالعزيز ضاحكاً : (( أما كفا الوزير أننا تاركوه يحكم في بغداد , والله عن قريب ترى جميع غرب الفرات لنا , و شرقيه له )) (12) , وقد كانت ضربة الجيش السعودي لمدينة كربلاء في عام 1216هـ 1801م جرس الإنذار بالنسبة ” للبلاطات الأوروبية ” التي بعد ذلك بوقت قصير (( علمت بالخطر الذي يشكله الوهابيون على الجزيرة العربية )) وهكذا فقد عمل القناصل البريطانيون والفرنسيون على إبلاغ حكوماتهم بتقارير عن هذه الحادثة في مطلع عام 1803م (13) وسواء كان امتداد الدولة السعودية ونفوذها على بلاد العراق والشام مهدداً و (( خطراً يتهدد زعامة الباب العالي في العالم الإسلامي وتحدياً لمراكزه التجارية في سوريا والعراق )) كما يرى كوبر(14 ) ؛ أو أنه يشكل خطراً على الطريق التجاري بين الهند وأوروبا عبر بلاد الشام ؛ فمما لاشك فيه أن النفوذ السعودي قد بدأ يهدد بريطانيا والنظام الدولي الجديد كما يهدد استانبول ؛ و لعل الهجوم على كربلاء كان لها أثر بالغ في خوف حكومات أوروبا وراسمي النظام العالمي الجديد من الدولة السعودية , كما اختلفت حكومة الهند البريطانية مع الدرعية حول تأمين البريد في المنطقة الصحراوية بين العراق والشام من الهجمات السعودية ؛ حيث اضطر صامويل مانستي أحد كبار موظفي المقيمية الإنجليزية في البصرة إلى زيارة الدرعية وإجراء محادثات لتسوية هذه القضية التي ثارت بسبب قصف المدفعية البريطانية للجيش السعودي المهاجم للكويت كما يذكر أبو حاكمة في تاريخ الكويت (15) . ومن هنا فقد انطلقت الجيوش السعودية تكتسح صحراء العراق والشام إلى ما حول مدينة حلب قرب الأناضول ؛ وقد أرسلت قبائل تلك المنطقة زكاتها للدرعية بانتظام .
أما بالنسبة للخط الأحمر الثاني : فقد جاءت محاولات سعود الكبير لتوحيد الجهد العربي بين الدولة السعودية من جهة ووالي الشام ووالي العراق من جهة أخرى ؛ ولعل دعوة الإمام سعود الكبير لوالي بغداد علي باشا واتفاقه مع والي دمشق عبدالله العظم قبل عزله بحجة اعتناقه مبادئ الحركة الإصلاحية ؛ ثم كتابته لوالي دمشق الذي خلف العظم يوسف كنج من أجل إقامة نوع من الإتحاد الكونفدرالي بين الأقاليم العربية الثلاثة ؛ فقد كتب عام 1223هـ / 1808م رسالة لوالي العراق علي باشا يقول فيها ((فإذا هداك الله للإسلام ؛ فإني أبشرك بأن أجعل في خدمتك ( 200,000 ) من الرجال , لا تلتزم بإعالتهم , فيكونوا تحت تصرفك في توجههم حيث تريد من الأطراف وما ترغب من حروب , لقد دخلت الشام في إسلامي وإن مقدمي رجالنا الذين قصدوا الحج في هذه السنة , قد تعاهدوا مع أربع باشوات وقد دخل الشريف في الإسلام , كما دخل عبدالله باشا بن العظم وتعهدا على ما هو حسن وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم ))(16).
وقد عزلت الدولة العثمانية والي دمشق عبدالله باشا العظم مقتنعة أنه قد قبل مبادئ الدولة السعودية ؛ فجدد سعود الكبير عرض مشروعه على خلفه يوسف كنج من خلال رسالة أرسلها له عام 1225هـ /1810م , فرد عليه بخطاب طويل أصله محفوظ بالأرشيف العثماني تحت تصنيف (H.H.19550-J ) حيث ركز في نهايته على هذا المشروع : (( فإن عملت بذلك فالمسلمون أعوان لك وأجناد بلا ديوان ولو تطلب من المسلمين أجناد جاك منهم ألف في يوم واحد يحبون الموت مثل محبتهم الحياة , رجاء الجنة وإيماناً بقوله { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة }, أهل عدد وعدة وحدود وبأس شديد والمدد من رب العالمين )) ؛ وقد اتهم والي بغداد الجديد أيضاً سليمان باشا الكهية الذي أطلق عليه سليمان باشا الصغير ” بميله للمذهب الوهابي ” وكان ” سلفي الإعتقاد ” ؛ وأنه بدأ يقرب علماء بغداد الذين يميلون للمذهب الوهابي ؛ وعُدت إصلاحاته من قبيل الطعن باتجاهات الدولة العثمانية وتبعية لعلماء بغداد التابعين فكراً واعتقاداً للدرعية ؛ وتقليداً للإصلاحات التي تحث عليها الدولة السعودية , بدلاً من معارضة تلك الإصلاحات والتنكيل بأتباعهم , حيث ضعفت علاقته السلطات العثمانية لهذا السبب حتى قتل (17) , والمتتبع لنشاط الإمام سعود الكبير أنه لم يكن راغباً في احتلال دمشق أو بغداد مع أنه كان بمقدوره فعل ذلك ؛ غير أنه كان يكثف جهوده لتوحيد جهود ولاة الشام والعراق معه ضد مملكة فارس والدولة العثمانية .
أما بالنسبة للخط الأحمر الثالث : فقد قامت كتيبة سعودية بغزو لساحل البحر المتوسط جنوبي فلسطين عام 1225هـ /1810م (18) ؛ بين عسقلان وغزة , ربما قام الإمام سعود بتلك الخطوة لإيجاد ميناء سعودي على ساحل البحر المتوسط للاتصال بأوروبا خاصة تلك المرحلة التي أشار فيها المؤرخون إلى أن نابليون قد أرسل بعثة سياسية (بعثة لاسكاريس ) إلى الدرعية وأجريت ” محادثات سرية كثيرة مع إمام الوهابيين ” لإقامة علاقات بين الطرفين في عام 1811م ؛ ولعل بريطانيا بالذات قد أثقل كاهلها اهتمام فرنسا وروسيا الجديد بالخليج العربي , وحين تمكن نابليون من النجاح في إعادة علاقاته بملك فارس من خلال بعثة 1806م / 1221هـ أصدرت الحكومة البريطانية أوامر لمبعوثها جونز بالسفر إلى بلاد فارس والعراق ؛ وأمر في حالة فشله بالبلاط الفارسي (( بالاتصال بالأمير سعود بن عبدالعزيز زعيم ” الوهابيين “… لكسب تعاونه ضد أي تقدم فرنسي من البحر المتوسط في اتجاه الهند )) وفيما يبدو أن سياسة بريطانيا كانت ممالئة للفرس والترك – كما يرى كوبر – وعلى حساب العرب ؛ معتقدين أن ذلك سيشكل نوع من التوازن إزاء أطماع ومخططات روسيا وفرنسا , ولعل زيارة البعثة الفرنسية للدرعية إن صحت قد أدخلت السياسة البريطانية بالمنطقة في تحد جديد كان لابد عليها من العمل على إزالته (19) .
أو لعله لتلافي الحصار الاقتصادي من قبل موانئ مصر؛ والذي أمر به السلطان العثماني بفرضه على موانيء الحجاز ونفذه محمد علي باشا بعد تلكؤ , إلى جانب الحصار الاقتصادي الذي تقوم به بريطانيا على الخليج العربي وربما من جهة باب المندب وعدن على السواحل والسفن السعودية ولئن كان هذا الحصار البحري والذي يشمل السلاح والرقيق؛ غير معلن من قبل بريطانيا على السفن القاسمية – السعودية في الخليج العربي وخليج عُمان وبحر العرب والبحر الأحمر فيما كانت الدولة السعودية الأولى صامدة ؛ فإن ذلك الحصار قد أُعلن مباشرة بعد سقوط الدولة السعودية من خلال معاهدات رسمية مع شيوخ الساحل للخليج العربي ؛ بحيث نصت المعاهدة العامة بين بريطانيا والقبائل العربية في الخليج عام 1820م في مادتها التاسعة على (( أن حمل الرقيق رجالاً ونساء وأطفالاً من السواحل الأفريقية أو أي مكان آخر ونقلهم بالسفن ؛ هو عملية نهب وقرصنة .. )) ويبدو أن السلاح كان محظوراً بدليل أنه حتى حليف بريطانيا – سعيد بن سلطان إمام عُمان – لم يدعم بالسلاح من قبلها إلا في حالة واحدة في نهاية 1809م كما تثبت الوثائق البريطانية ومن أجل تدمير زوارق لرأس الخيمة (20) .
وإضافة إلى كل ما سبق فقد رُصدت قبائل بدوية تابعة للدولة السعودية تقترب من آبار مياه في صحراء سيناء ؛ فقد أورد الجبرتي أنه في 4 ديسمبر1809م / 26 شوال 1224هـ (( أن طائفة من العربان تابعة للوهابيين حضروا إلى ناحية السويس وأقاموا على بئر ماء ومنعوا السقيا منها )) , وقد أرسل محمد علي باشا قائدين بفرقة عسكرية من جيشه هما إبراهيم بك و محمد أغا لطرد تلك المجموعة , وهي خطوة نعرفها جيداً حسب التكتيك السعودي فهي تشبه المليشيا العسكرية السعودية التي عادة ما تكون استطلاعية لجس قوة العدو , استعداداً للتوغل من خلال تشكيل مليشيات محلية مؤيدة للنفوذ السعودي ؛ ولعل المؤرخ الفرنسي المعاصر لويس ألكسندر دو كورانسيه والقنصل الفرنسي بحلب بين 1802-1808م قد أكد أن السعوديين قد (( شنوا عدة هجمات لم يُكتب لها النجاح على مصر …)) ويؤكد حدوث تلك الغزوات مراراً (21).
وهذه النقطة بالذات – فلسطين وقناة السويس – بينت القوى الفاعلة بالثورة الفرنسية والنظام الدولي الجديد الذي يقف وراء تلك الثورة أنها تعطيه أولوية قصوى ؛ وبهذا فقد تقاطعت سياسات الدولة السعودية الأولى مع أهم سياسات النظام الدولي الجديد وطموحاته ؛ ففلسطين مهمة للغاية لراسمي هذا النظام ؛ سواء كما جاء بمحاولة نابليون إقامة مملكة القدس اليهودية القديمة قبل أكثر من عشر سنوات من غزوة سالم بن بلال الحرق لساحل فلسطين قرب غزة أو عسقلان ؛ أو من خلال مشروع الاستعمار الزراعي لفلسطين أو من جانب مشروع قناة السويس ؛ فقد جاء إلى مصر بعض أتباع جمعية ( السان – سيمونية )- كما ذكرنا سابقاً – , وإن كانوا قد بينوا طلباتهم هذه مع اقتراب قضاء القوات المصرية على الدولة السعودية , حيث أوضحوا لمحمد علي مشاريعهم بجلاء , لقد خرج أتباع سان سيمون من سجون فرنسا ونفوا إلى مصر , وبدأوا ببذل جهود جبارة مع محمد علي باشا لإقناعه (( بضرورة العمل على إنجاز قناة السويس عن طريق فصل القناة عن مصر وتمويلها دولياً )), واجتهدوا في محاولاتهم لإقناع محمد علي بمشاريعهم السياسية والاقتصادية , ومن ضمنها (( العمل على استثمار أراضي فلسطين لصالح محمد علي بتمويل يهودي عالمي , ولكن هذا المشروع لم يلق بدوره أية استجابة من محمد علي باشا, نظراً لما يمثله من مخاطر إستراتيجية متعددة الأوجه ))(22) .
وإذا كان نابليون قد أراد إقامة مملكة اليهود القديمة بفلسطين بحدود عام 1800 م , قبل عشر سنوات من غزو شاطئ البحر المتوسط من قوة عسكرية سعودية في عام 1810م , والسان –سيمونيه قدموا طلبهم لمحمد علي باشا مع نهاية الحرب ضد الدرعية ؛ وحين رفض مشروعهم رحلوا للجزائر, فقد كان لقنصل فرنسا جوزيف روسو في حلب دوراً في ذلك ؛ حيث كان يرقب نشاط الدولة السعودية وحرص على مقابلة موفد سعودي زار حلب عام 1808م / 1223هـ وكتب تقريراً مفصلاً عن الدولة السعودية لحكومته .
ولعله – كما يذكر آل زلفه – ((غني عن القول أن تلك الفترة الزمنية قد شهدت نشاطاً أوروبياً كثيفاً هو في ظاهره علمياً وفي باطنه وحقيقته كان جاسوسياً , فقد شهدت تلك الفترة قدوم أكبر عدد من الرحالة الأوروبيين ؛ منهم من كانت له طبيعة رسمية ومنهم من استهوته حب المغامرة لمعرفة ما يحدث في بلاد الشرق , وكان لنتائج رحلاتهم وما رفعوه من تقارير وما نشروه من كتب أثر كبير على أصحاب القرار السياسي في بلادهم فيما بعد )) (23), وهو الأمر الذي يؤكده كورانسيه في أوائل الكتب التي ألفت عن الحركة الإصلاحية ؛ حيث – كما يؤكد محمد خير البقاعي – كان (( للفرنسيين قصب السبق في التنبيه على أهمية الدعوة الإصلاحية , وما يمكن أن تحدثه من أثر في المنطقة عموماً , وفي نفوذ الدولة العثمانية على وجه خاص )) .
ويؤكد كورانسيه أنه بالنسبة إليه (( فقد كانت الإقامة في مدينة حلب مناسبة للاستعلام عن هذا الموضوع , وكان أحد سكان هذه المدينة , وهو مسيحي ماروني , عُرف بتميزه في معرفة اللغات الشرقية جمع تفاصيل هامة جداً عن بدايات تاريخ الوهابيين , وتكرم بتقديمها لنا , زد على ذلك أنه كان لنا مراسلون مفيدون ونشيطون في سورية ومصر ودمشق وبغداد ونخص بالشكر في هذه المدينة الأخيرة السيد ريمون الذي كان آنذاك ضابطاً في سلاح المدفعية لدى باشا بغداد , وقدم لنا بمنتهى الكياسة تقارير كانت , بحكم موقعه ومواهبه , صادقة كل الصدق , وأمينة كل الأمانة , لقد استطعنا بفضل مقارنة مختلف التقارير …ناهيك عن ملاحظاتنا الخاصة , تسجيل الأحداث الرئيسية … وتقديم أفكار إيجابية عن الوضع الحالي لشعب جديد سيكون محط اهتمام عام )) وقد نشرت هذه الأفكار والمعلومات بجريدة لومونيتور ومجلة فرانكفورت وفي كتب دورية وبحوث نشرت وقرئت بالمعهد الفرنسي أو معهد فرنسا ( الأكاديمية الفرنسية ) , وزاد ذلك الاهتمام بعد أن أصبح خطر الحركة الإصلاحية (( يهدد ولايتي العراق والشام اللتين كانتا على وشك السقوط في حين أحكمت دولة الدرعية سيطرتها على الممرات المائية المحيطة بالجزيرة العربية في البحر الأحمر من الغرب والخليج العربي من الشرق ؛ وهما الطريقان الرئيسيان للتجارة الدولية ؛ وهذا يعني تهديداً مباشراً للمصالح البريطانية والفرنسية ؛ حيث سارعت حكومتا لندن وباريس في استقصاء أخبار هذه الحركة بتكليف مبعوثيها السياسيين و مقيميها التجاريين في تزويدهما بالمعلومات الكافية عما يحدث في جزيرة العرب ؛ وهي بالنسبة لهم شبح رهيب إذا ما عادت بهم الذاكرة – وهم أمم لا تنسى – إلى العصور الذهبية للفتوحات الإسلامية )) (24) .
ولقد ظلت القوى الكبرى وبريطانيا على رأسها حتى الحرب العالمية الأولى وهي تخشى من الدولة السعودية ؛ مما يعني أن العداء البريطاني كان متأصلاً – في حرب محمد علي باشا – ضد الدرعية منذ تلك الفترة وحتى القرن العشرين ؛ ففي تقرير كتبه سير مارك سايكس عن الأحوال بجزيرة العرب في 23يوليو 1915م يقول فيه (( ولا يشارك جيكوب الذين يقولون بأن تحويل الخلافة من الترك إلى عائلة الشريف سيكون الحل المفضل . ويقول بأن هذا التحويل سيؤدي إلى اضطراب في الجزيرة العربية , وربما يثير بعثاً دينياً مثل الحركة الوهابية ؛ وبذلك تقع الخلافة في أيدي تنفخ فيها روحاً جديدة ..)) (25).
وقد كتب القنصل الفرنسي لحكومته في تقريره قائلاً : (( إن دعوة ابن عبدالوهاب وتحالفه مع أمير الدرعية , ما هي إلا صحوة جديدة للعرب الذين مضى عليهم ردحاً من الزمان مغمورين وراء كثبان صحرائهم , وإن عودتهم إلى مسرح الأحداث من جديد , وهم يحملون نفس المبادئ التي حملها أسلافهم في أوائل عهد الفتوحات الإسلامية , والتي على أثرها تحطمت إمبراطوريتا الفرس والروم , وهذا ما جعل أنظار القوى الكبرى تتجه بعين المراقب الحذر إلى متابعة تلك الصحوة العربية )) (( أما كان من الممكن القضاء على هذه الحركة الإصلاحية وضربها في عقر دارها ؟ … إن السلطان العثماني مصطفى منذ توليه سلطة الخلافة أبدى اهتماماً كبيراً يعاونه وزيره الأعظم في القضاء على مشكلة حركة ابن عبدالوهاب وأتباعها , والتي لم تعد مثار اهتمام السلطان العثماني وحكومته فحسب ؛ بل شملت اهتمام القوى الأوروبية أيضاً , ولكن السلطان فشل في تنفيذ خططه المعدة لتوجيه ضربة قاضية لهؤلاء العرب الذين لا يعترفون بسلطته )) .
وبعد أن يرسم خطة القضاء على الدولة السعودية يؤكد بقوله (( وبهذا يجد الوهابيين أنفسهم مطوقين من اتجاهات مختلفة وبضربة محكمة يودون بالوهابيين إلى نهايتهم وعندما يتم غزو الدرعية القلب النابض للوهابيين يصبح من المؤكد أنه لن تقوم لهم قائمة مرة أخرى ولا في مكان آخر )) (26) .
لقد كانت حركة الإصلاح التي قامت على مبادئها الدولة السعودية الأولى قد أرعبت الدولة العثمانية كما أرعبت الدول الكبرى ؛ وذلك لخشية تلك القوى من (( أن يعيد تاريخ الفتح العربي نفسه )) و حسب جيل كيبيل ؛ فإن (( الملحمة الوهابية تشكل استعادة لتجربة الإسلام الأولى على يد صحابة النبي , وهم يجوبون سبل الجزيرة العربية لدى فجر الإسلام ))ويقول ديفيد كوبر (( تجاوزت الحركة الوهابية … مجرد كونها حركة دينية بل صارت فوراناً له مظاهره السياسية , لقد كانت الحركة الوهابية إيذاناً باندلاع شرارة القومية العربية )), أو كما ترى كارين آرمسترونج قد كان ذلك (( أول علامة على أن العرب على وشك أن ينفضوا عنهم جمود عصرهم العثماني المظلم , ويهموا بأخذ مصيرهم بأيديهم )) لقد كانت (( الثورة الوهابية في القرن الثامن عشر مجرد قرينة واحدة على بقائه [ الإسلام ] حياً باستمرار )) ومن ثم بدأت بريطانيا من خلال كتَاب بريطانيون يرون منذ عام 1800م أهمية فلسطين لبريطانيا وضرورة إعادة اليهود إليها لأسباب تتعلق بالعصر الألفي السعيد ولأسباب تجارية وسياسية (27) .
ويكمل روتشيلد – أكبر ملياردير يهودي بريطاني – هذه الحقيقة بتوثيق تاريخي يرسم فيه سياسة حكومات أوروبا في هذه المنطقة ؛ ويسجل الطلب ذاته برسالة لبالمرستون وزير الخارجية البريطاني عام 1841م يقول فيها : (( إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض سوف نجد فلسطين ؛ هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبقية العرب في آسيا , وكانت فلسطين دائماً بوابة الشرق , والحل الوحيد ؛ هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر وفي هذه البوابة ، لتكون هذه القوة بمثابة حاجز يمنع الخطر العربي ويحول دونه ، وتستطيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين أن تقوم بهذا الدور ، وليست خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد ومصادقاً للعهد القديم , ولكنها أيضاً خدمة للإمبراطورية البريطانية ومخططاتها ))(28) .
ولعل هذا السيناريو الذي رسمه روتشيلد لن يصبح سياسة لبريطانيا فحسب ؛ بل سيعتمده حتى مفكرو أوروبا وذلك من خلال توصيات لجنة كامبل بانرمان في لندن عام 1907م والتي ضمت العديد من كبار أساتذة الجامعات من ست من الدول الاستعمارية بأوروبا الغربية حيث أوصى المجتمعون على ضرورة (( العمل على فصل الجزء الأفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي )) وإقامة حاجز بشري قوي وغريب على هذا الجسر البري بين آسيا وأفريقيا وقرب قناة السويس يكون صديقاً للقوى الاستعمارية (29) .
وهذا يثبت ما ذهبنا إليه ؛ لقد تقاطعت سياسات الدولة السعودية الأولى مع سياسات النظام الدولي الجديد ؛ الذي يحاول راسموه بصعوبة السيطرة على زمام السياسة الدولية وتوجيهها بالشكل الذي يخدم مصالحهم , ولقد تماست نشاطات الدولة السعودية السياسية والعسكرية والاقتصادية في الخليج العربي ؛ حيث المصادمات البحرية السعودية ( القاسمية ) – البريطانية ؛ وفي صحراء الشام والعراق وفي فلسطين والسويس ؛ بل وحتى في البحر الأحمر – حيث بلغ نشاط البحرية السعودية – القاسمية إلى هناك – مع النظام الدولي الجديد ؛ لذا فكان لابد للحكومات والقوى الكبرى أن تعطي نداءات القناصل والتجار والجواسيس الأوروبيين جل الاهتمام من أن الدولة السعودية بدت تشكل خطراً على سياسات وأهداف ذلك النظام .
ومن هنا فقد استخدم الباحث مصطلحاً حديثاً استخدم في عصرنا ولم يستخدم في وقت ذلك الصراع الدائر بين محمد علي باشا والدرعية , ولكن المتأمل في التاريخ يجد أن كثيراً من الأساليب والأجندة التي استخدمتها أمريكا في عهدي الرئيسين جورج بوش الأب وجورج بوش الابن , كقادة لجيوش التحالف ضد العراق في حربين عام 1991م و2003م قد استخدمت ضد الدولة السعودية قبل أكثر من قرنين من الزمان ؛ وكأن الزعماء الثلاثة محمد علي باشا وبوش الأب وبوش الابن ينفذون أجندة وأساليب واحدة قُرِّرت من جهة عليا تم تكليفهم بها ؛ حتى لو اختلفت الأسماء والدول والمكان والزمان (30).
ذلك المسمى الذي تم استخدامه في هذا البحث ولأول مرة هو ” قوات التحالف ” بدلاً من القوات التركية أو المصرية أو قوات محمد علي باشا , ولعل الباحث يناقش أسباب استخدام هذا التعبير بأن قوات محمد علي باشا هي قوات تحالف دولي وإقليمي ومحلي ؛ وليست قوات مصرية أو تركية ؛ فمن حيث البعد الدولي ؛ فسيورد الباحث أن هناك قيادات فارسية وفرنسية وبريطانية وإيطالية وجنود مرتزقة كثيرون كانوا غير مختونين – كما يذكر الجبرتي – أنه قد تم الكشف عنهم بعد مقتلهم في معركة وادي الصفراء ؛ وأن هناك رجل نصراني أسمه توماس كيث تسمى بإبراهيم أغا وأصبح أميراً أو كما قال الريحاني أول نصراني يصبح أميراً على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم (31) , وأن أحد هؤلاء القادة كان قائداً عسكرياً فارسياً أسمه عجم أوغلان من مدينة تبريز الإيرانية يقود معسكراً للجيش في الحناكية كما يذكر سادلير أنه قابله في رحلته عام 1919م (32) ؛ ولم يكن رفض بريطانيا استقبال مبعوثين سعوديين من الإمام سعود الكبير إلى قنصليتهم في بوشهر لتحسين العلاقات مع بريطانيا في عامي 1811م و1814م إلا نوع من هذه الحرب والحصار الدبلوماسي (33) , وقد بدأت البحرية البريطانية تضرب البحرية السعودية – القاسمية سواء كان بالخليج العربي أو البحر الأحمر منذ عام 1809م وتفرض عليها ما يشبه الحصار الذي أعلن فقط بعد سقوط الدرعية بفترة من خلال معاهدات 1820م ؛ بل وتسدد ضرباتها للموانئ السعودية بكل وحشية كميناء رأس الخيمة وشناص وكما يقول هارفارد جونز بريدجز (( وفي الخامس والعشرين من فبراير 1810م (20محرم 1225هـ ) عادت الحملة إلى بومباي … وباستعارة كلمات الكولونيل سميث ” العقاب الملائم ” الذي تلقته الحكومة الوهابية على يد هذه الحملة لم ينجح هذا العقاب في إلحاق الدمار التام بالأماكن التي تمت مهاجمتها فقط ؛ بل أطفأ أيضاً حماس القبائل العربية البحرية لمساعدة الوهابي , والواقع أن أعمال الحملة أصابت قوة الوهابي بأول جرح قاتل )) (34) .
ولقد شاركت الأطراف الإقليمية كالعراق والشام ومصر وليبيا وعُمان بالمجهود الحربي للتحالف ؛ فعُمان قدمت السفن لنقل جنود التحالف من السويس إلى ينبع ,بينما قدمت بلاد الشام عشرات الآلاف من الجمال التي هي توازي قيمة الدبابة في عصرنا الحالي ,في حين قامت العراق بتقديم الكثير ؛ فإلى جانب دعم رمزي من المقاتلين في منتصف الحرب ؛ فقد أرسلت نجدات لجيوش التحالف ؛ وخاصة في المراحل الأخيرة من هذه الحرب من المؤن والذخائر حين انفجرت مخازن ذخيرة جيش التحالف وهو محاصر للدرعية , أما ليبيا فقد قدمت آلاف المقاتلين الفرسان المتطوعين وآلاف الجمال كذلك .
أما الدور المحلي في هذا التحالف فقد شارك آلاف من الجنود القبليين بداية من ابن شديد الحويطي زعيم قبيلة الحويطات وقبيلة حرب وجهينة وبعض قبائل الحجاز وقبيلة مطير وغير هذه القبائل ؛ وإن كان بعض القبائل قد أجبر على التعاون مع قوات التحالف ؛ فإن المشكلة أن بعضها الآخر قد شاركت متحمسة ومتطوعة , وقد تحالفت بعض قبائل الحجاز كذلك مع محمد علي (35) .
هذا إلى جانب نوع من التكاتف الدولي للقضاء على الدولة السعودية ؛ ففرنسا قدمت بداية الأسلحة الحديثة المتقدمة لجيش التحالف الذي قاده طوسون ثم محمد علي باشا ولكن في نهاية المطاف صنعت تلك الأسلحة في مصر تسهيلاً لتلك المهمة ( تدمير الدرعية ) التي كتب عنها القنصل الفرنسي بحلب منذ عام 1808م ؛ وقد ذكر القنصل البريطاني العام في مصر في معرض انتقاده لمشروع محمد علي التصنيعي – بعد أن تم القضاء على الدرعية ؛ حيث حان آنئذٍ تدمير مصر أيضاً – قوله (( … فبعد أن كان في بداية أمره يشتري من أوروبا عتاده الحربي بكافة أنواعه , أصبح يصنع في مصر كل شيء …)) (36) .
وقد انهالت الأموال على محمد علي باشا بما هو أكبر من قدرته أو قدرة الدولة العثمانية ذاتها على الصرف والإنفاق (37) ؛ هذا فضلاً عن أن محمد علي باشا يبدو وكأنه مسلوب القرار وهو يعين أسماء مسيحية وغريبة على أهم مدن الحجاز فتوماس كيث المسيحي البريطاني يصبح والياً على مدينة الرسول الطاهرة , و ساييم أوغلو بعد أن تخلى عن جيشه بالقنفذة وهرب بالسفن إلى جدة ليواجه جنوده الفناء ؛ وبدلاً من محاكمته يتم تعيينه والياً على جدة (38) ؛ هذا وكثير غيره يثبت أننا أمام ظاهرة تحالف دولي لأول مرة يتم تجريبة من مناطق العرب والمسلمين .
وكما طالب جوزيف روسو بتقرير له عام 1808م بتدمير الدرعية حتى لا تقوم لها قائمة أبداً ؛ ولا في أي مكان من العالم , وبين أن القوى الكبرى ترصد بدقة صحوة العرب ممثلة بالدولة السعودية ؛ فقد بدأ الأوروبيون في الشرق يتحدثون عن ذلك , وكما يذكر بوركهارت على استحياء ؛ حين يقول : (( …أن جميع الأطراف [ ؟!] قد علمت أنه لا يمكن أن تستعاد الحجاز إلا عن طريق مصر ))(39) , ثم يقول: ((ولقد اتحدت كل أقوام الإمبراطورية التركية على إجهاد الوهابيين , وطالبت بتنفيذ حملة مشابهة لحملاتنا الصليبية القديمة ضدهم ))(40) , وفي حقيقة الأمر فإن بوركهارت يعطي رموزاً أكثر مما يعطي حقائق فلم تقع يدي على نص واحد أو وثيقة واحدة يطالب فيها أحد من الأتراك أو الأقاليم العثمانية العربية بمثل هذا الطلب ؛ إن هذا أقرب إلى ما يدور بين القناصل والتجار الأوروبيين في الشرق أكثر منه ” أقوام الإمبراطورية التركية ” ؛ ولذلك فقد نفذت فكرة ” تنفيذ حملات مشابهة لحملاتنا الصليبية القديمة ضد” الدولة السعودية ؛ بيد أنها حرب تحالف فيها المسيحي والمسلم الرسمي التركي واليهودي ضد الدولة السعودية ؛ لقد كانت أول تحالف حربي دولي – إقليمي – محلي في المنطقة في العصر الحديث .
ويذكر الريحاني أن عدم تأمين الإمام سعود الكبير للأجانب القاطنين في جدة حين استسلم له الشريف غالب وانضمت جدة للدولة السعودية الأولى ؛ كان بداية الكارثة حين يقول : (( أضف إلى ذلك أنه لم يؤمن الأوروبيين الذين كانوا في جدة فخرجوا منها سنة دخوله إلى مكة , وكانوا في مجرد عملهم ذاك حجة على حكمه ))(41) .
ورغم أن الوثائق قد تكون شحيحة ؛ ولكنها مع قلتها ؛ فإنها المتوفر منها واضحة قاطعة لا لبس فيها , من أن ما حدث للدولة السعودية الأولى على يد تحالف دولي كبير , شارك في تلك الحرب على كافة المستويات , بدءاً من أقاليم الدولة العثمانية في مصر والعراق والشام إلى جانب عُمان , ويساعدهم تحالف دولي من القوى الكبرى كبريطانيا وفرنسا والدولة العثمانية , ومرتزقة وكبار الضباط الأوروبيين الذين يديرون الخطط وآلة الحرب , كما أن ما حدث لدولة محمد علي باشا , حين كرر نفس الخطأ الذي وقعت به الدولة السعودية الأولى من السيطرة على الطرق التجارية وأهم أقاليم الشرق (مصر والشام وجزيرة العرب والأناضول ) , كان كله يصب في القضاء على الدولتين لحماية المنطقة في ظل الضعف العثماني وللحفاظ على معادلة النظام الدولي الجديد آنذاك ومشاريعه المستقبلية بالمنطقة , وحتى يحين للدول الأوروبية احتلال فلسطين وإقامة المشروع اليهودي الصهيوني فيها , والتي نجد هذا النظام – من خلال الدول الكبرى – يحرس تلك الأهداف ويواصل تلك السياسات حتى يومنا هذا.
ولذا فإن ما حدث لم يكن (( تحالفاً تركياً- مصرياً )) – حسب تعبير كارين آرمسترونج – (42) , كما لم تكن تلك الجيوش (( جيوشاً مصرية )) فالمصريون لم يسمح لهم بالانخراط بجيش محمد علي باشا إلا في عام 1239هـ أي بعد سقوط الدرعية بست سنوات – كما يذكر الدكتور مرسي عباس (43) , بل كان تحالفاً دولياً ضد الدولة السعودية , فالبعض قدم الأموال بكثافة أغرقت الشرق بسيولة غير مسبوقة كبريطانيا التي قدمت لمحمد علي باشا مثل هذا التعهد في اتفاقها معه قبيل انسحابها من الإسكندرية ,ولعل موافقة فرنسا على تمويل مشروع غزو محمد علي باشا للجزائر يعطي مثالاً حياً على سياسة الدول الكبرى في تلك المرحلة ؛ وإن لم تكشف الوثائق عن الجهة التي موَّلت حرب التحالف ضد الدولة السعودية الأولى ؛ ولعل طلب محمد علي بتمويل فرنسا لمشروع احتلال شمال أفريقية قد جاء بناء على خبرة وتجربة لمحمد علي باشا بتمويل جهة ما لحربه ضد الدولة السعودية , إلى جانب أن البعض قدم الخبرة العسكرية والخبراء العسكريين , كما أن هناك من تكفل بتصنيع مصر , حتى يتسنى لها القضاء على الدولة السعودية الأولى , أضف إلى ذلك آلافاً من المرتزقة أكدت معركة الصفراء أن جل القتلى من جيش التحالف هذا غير مختونين حسب رواية الجبرتي (44) , مما يؤكد أنهم من النصارى واليهود .
د.صالح السعدون
رئيس قسم الدراسات الإجتماعية
كلية الآداب والتربية
جامعة الحدود الشمالية

1٬467

الكاتب د.صالح السعدون

د.صالح السعدون

د.صالح السعدون مؤرخ وشاعر وأكاديمي / لدينا مدرسة للتحليل السياسي غير مألوفة..

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة