معركة وادي بسل بين الدولة السعودية الأولى والنظام الدولي الجديد 2/3

معركة وادي بسل بين الدولة السعودية الأولى والنظام الدولي الجديد 2/3

معركة وادي بسل بين الدولة السعودية الأولى والنظام الدولي الجديد 2/3
الفصل الثاني :
تطور الأحداث في جبهات القتال في عهد الإمام عبدالله :
توفي الإمام سعود الكبير وفقدت أمة العرب قائداً ملهماً ندر أن نرى في تاريخنا الحديث مثله , لقد جمع بين العالم العابد , ورجل السياسة و الحرب , والقائد المحنك والمخطط الإستراتيجي , وتمكن من توسيع ممتلكات والده إلى أربعة أضعاف مساحتها بمجرد أن ولاَّه والده زمام الأمور وقيادة دفة الدولة , لقد لامست قواته البحار الأربعة بدءاً من بحر العرب إلى البحر المتوسط ومن الخليج العربي إلى البحر الأحمر .
وبقدر ما كان قائداً يمثل قوة آمال العرب في الوحدة والقوة ؛ و بقدر ما كان خليفته على عكس طموحاته تماماً , فقد جاء الإمام عبدالله والأحداث التي تعصف بالدولة السعودية أكبر من قدراته , ولكن لله حكمته وإرادته , ولو وفقت الأسرة السعودية المالكة أن تختار رجلاً آخر للمرحلة الخطيرة التي كانت البلاد تمر بها , لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه من ضياع ملك ودولة ومجد إلى جانب أحلام المجتمع العربي الذي خضع لهذه الدولة بالسلام والأمن والرفاه (45) , لقد كان يجب أن يضحَّى في المصلحة الشخصية لرجل لم يمتلك القدرة على إدارة دفة البلاد كوالده , لصالح رجل آخر تتفق الأسرة والعلماء والأمة بأنه هو رجل المرحلة التي يدرأ الخطر ؛ ويكون بمستوى الحدث , ويعيد التوازن من جديد إلى القيادة ؛ للانطلاق مرة أخرى حين تتبدل الظروف الدولية من جديد, أو على الأقل يحافظ على ما وجد الأمور قد وصلت إليه .
يشير بعض المؤرخين إلى أن الإمام سعود توفي ولم يكن قد أعلن خليفته , غير أن ابن بشر يشير إشارة واضحة إلى أن رجال الدولة والرعية بايعوا بعد وفاة الإمام سعود ” ولي عهده ابنه عبدالله “, ونظراً لدقة معلومات هذا المؤرخ الكبير فمن الصعب الاعتقاد أن ابن بشر سيذكر هذه الحقيقة بمستوى هذا الوضوح لو لم يكن قد حدث ؛ ولعل مصدر التشكيك هو أن مؤرخي الدولة السعودية لم يجدوا أن تولية عبدالله بن سعود للعهد قد حدثت إلا بعد وفاة والده ؛ غير أن العديد من المؤرخين يجزمون بأنه قد حدث خلاف حول مبايعة الإمام عبدالله بن سعود الكبير كإمام للدولة (46).
كانت الجبهة العسكرية السعودية توالي انتصاراتها وتضييقها الخناق على قوات التحالف حين توفي الإمام سعود الكبير ؛ فغصاب العتيبي كان يقود فرق الخيالة السعوديون بين تربة والطائف ومكة أي بين معسكر طوسون باشا بالطائف و قيادة التحالف في مكة ؛ وقد التحق الشريف راجح الشنبري ومن معه من قوات الحجاز بالقرب من غصاب , في حين كان طامي بن شعيب قد علم للتو بسقوط القنفذة بيد قوات التحالف , وهو في طريقه لغزو جدة ؛ فعدل مسار جيشه وحمل على القنفذة وسقطت بيده ؛ وفي الوقت الذي فر قائد الحملة ساييم أوغلو إلى جدة عبر السفن ؛ فقد ترك جنوده للفناء ؛ الذين قتل كثيراً منهم (( في البحر قرب السفن بأيدي الوهابيين الذين سبحوا وراءهم )) فغنمت القوات السعودية كامل عتادهم ومعسكرهم وأسلحتهم (47).
في جانب معسكر طوسون بين الطائف وتربه ؛ فقد تعرض لهزيمة قاسية أمام فرقة من الجيش السعودي – متطوعين ومجاهدين – تقوده غالية الوهابية ؛ وهي زوجة لأحد زعماء ووجهاء تربه وكانت لها كلمة مسموعة بين المجاهدين , وقد فر جنود التحالف من المعركة مخلفين مئات القتلى بعد أن أحرقوا معسكرهم خوفاً مما اعتقدوه من قوى غالية الخفية القاهرة (48) .
وقبيل وفاة الإمام سعود الكبير بقليل توجه عبدالله بن سعود ليلتحق بغصاب العتيبي الذي فيما يبدو تربطه بعبدالله بن سعود علاقة ولاء خاص , وكان غصاب العتيبي والخيالة السعوديون من الحجاز وعسير ونجد يعسكرون في موقع أسمه ” الخانوقة ” ؛ بينما كان أمير القصيم حجيلان بن حمد ومحمد بن علي أمير جبل شمر قد ساروا بجيشي القصيم والجبل لتأديب جزء من قبيلة حرب الموالين لجبهة التحالف (49) .
لقد وصلت وفاة الإمام سعود الكبير وفرسانه وجيوشه في مثل هذه الأحوال والمعنويات العالية ؛ وكما يقول أمين سعيد بأن انتصارات الجيوش السعودية في الجبهة العسكرية (( صداه الحسن في نجد , فاهتزت فرحاً وسروراً كما ارتفعت القوة المعنوية في صدور أبنائها ورجالاتها …)) وأن (( الإمام سعود الكبير لحق بالملأ الأعلى …و أطبق عينيه وكفة جيشه ما تزال راجحة ؛ وحالة بلاده وشعبه على خير ما يرام )) (50) .
ربما كان باستطاعتهم القيام بهجوم عام لاستخلاص الحجاز لو وضعوا الخطط الجيدة لذلك فقد شنوا حرباً أشبه ما تكون بحرب العصابات والهجمات الخاطفة ثم الانسحاب ؛ تساعدهم طبيعة الجغرافيا بالحجاز ما بين الطائف ومكة ؛ في حين كانت معنويات جيش التحالف في أدنى مستوى لها بعد هذه الهزائم التي تلقوها علي أيدي الجيوش السعودية , ويصف بوركهارت المستوى المتدني لمعنوياتهم في هذه الفترة الزمنية التي سبقت وفاة سعود الكبير بقوله (( وفي أثناء ذلك قام الوهابيون بغارات متكررة على الطائف )) ؛ كما قام طامي بن شعيب بإرسال ((فرقة من قبيلة قحطان على ستمائة بعير نحو جدة , وكدت لا أنجو من أولئك القوم … , ووجدنا أولئك الرجال في حالة إنذار , فقد أخبرهم بدو من الجنوب أن العدو يقترب منهم … وبطريق دائرية وصلنا إلى جدة في اليوم التالي ؛ لكن ما إن غادرنا بحرة حتى اقتحمها الوهابيون …وفي أثناء ذلك كله لم يبد الثمانون فارساً أبداً أية مقاومة , بل عدوا بخيلهم متجهين إلى مكة ؛ حيث نشروا أعظم الرعب . وبذلك قطع الاتصال بين جدة ومكة طيلة أسبوع ؛ لكن الوهابيين بعد أن حققوا هدفهم انسحبوا …وأرعب نجاحهم المستمر في مثل تلك الهجمات الجنود الأتراك أكثر مما أخافتهم الهزيمة في معركة نظامية . ذلك أنهم بمجرد مغادرتهم حدود المدن لم يشعروا أبداً بأنهم آمنون لحظة واحدة )) .ومما يعطينا مستوى تدني معنويات جنود التحالف يقول (( وكانت انتصارات العدو المتكررة , والموت المحقق الذي ينتظر كل الأسرى الأتراك , وأسم الوهابيين بحد ذاته أموراً مرعبة لأفراد قوات الباشا )) وكان أن بدأوا بالهروب من جدة بحثاً عن سفن تنقلهم خارج جزيرة العرب ؛ فأصدر محمد علي باشا قوانين تحرم ذلك ووضع عليهم عقوبات صارمة (( وترك كثيراً من أولئك الجنود قواعدهم في الطائف ومكة , وقدموا سراً إلى جدة آملين أن يستطيعوا الهروب على سفينة من السفن , وكان إذا عثر عليهم أعيدوا إلى مراكز قياداتهم مكبلين بالأغلال وقد قابلت بنفسي مرة في الطريق من جدة إلى مكة أكثر من ثلاثين منهم مربوطة أيدي بعضهم مع أيدي البعض الآخر بحبل طويل , وذلك عار لا يمكن أن ينساه أبداً أولئك الأتراك المتغطرسون )) (51) .
وفي الخانوقة بويع الإمام عبدالله بن سعود إماماً للدولة السعودية ؛ ولعله وإن كان قد حدث جدال أو خلاف بينه وبين عنه عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد وشقيق الإمام سعود على قيادة الدولة فإن موقف العلماء والفرسان كان مرجحاً بلا شك لعبدالله بن سعود في خلافة والده على الإمامة .
لقد استلم الإمام عبدالله بن سعود مسئولياته بالدولة في ظل تفوق سعودي في المعنويات وفي العمليات العسكرية الميدانية ؛ ولعله لا ينقصنا إلا الوثائق أو النصوص التاريخية الدقيقة حيال الخطة التي وضعها سعود الكبير قبيل وفاته ؛ إذ أنه مارس قيادة عسكرية هادئة ومنضبطة وواعية , فكان يضغط من كل الاتجاهات نحو الطائف ومكة وجدة والمدينة ؛ فكان هو بنفسه إلى جانبه حجيلان بن حمد أمير القصيم ومحمد بن علي أمير الجبل يمارسون ضغطهم المستمر والمتتالي على جبهة الحناكية – المدينة المنورة ؛ حتى حصر قبيلة حرب داخل الحرة , بينما يواصل كل من عثمان المضايفي في مرحلة سابقة لأسره ونقله لإستانبول , ثم غصاب العتيبي وفرقة الخيالة والأميرة غالية الوهابية بجموع مجاهدي تربه وما حولها وقبيلة عتيبة التي وصفها هارفارد جونز بقوله : ((كانت المناطق بين هذين المكانين [ تربة والطائف ] تنزلها قبائل معادية وخاصة قبيلة عتيبة التي كانت أعنف الجماعات المنتمية لطائفة الوهابيين ))(52) ,كانت تلك القوى تواصل ضغطها ودفاعها على خطوط الجبهة بين الطائف وكلاخ وتربه .
أما الجبهة الجنوبية للحجاز فقد كان طامي بن شعيب يتولى عملية الضغط والهجوم المزلزل على الطائف والقنفذة ؛ بل ويضرب أطراف مدينتي مكة وجدة من خلال غارات سريعة وخاطفة كما يذكر بوركهارت – أعلاه – في حين كان يتولى بخروش زعيم غامد وزهران الدفاع والضغط على الجانب الأيمن لجبهة الطائف الجنوبية .
وكانت تلك الخطة العسكرية التي نفذها سعود الكبير بهدوء وبطء – والتي جعلت بوركهارت يقول عنه في بدايات الغزو مندهشاً : (( أما زعيمهم فبقي في الحجاز ساكناً سكوناً يصعب تفسيره )) (53) – قد أجبرت جبهة التحالف إلى تعتنق توجهين : الأول : أنه من الصعب تحقيق أكثر مما تحقق ؛ (( وقد كاد محمد علي أن يقلع عن محاولته بعد سلسلة من الفشل بعد أن هزم في تربه وطرد من القنفذة وارتكب خطأ فاحشاً بالسماح للوهابيين بمحاصرة الطائف ذات الموقع الإستراتيجي الهام ))(54) ؛ أما الثاني : فإنه بما أن التوازن على الجبهة السياسية والعسكرية في الحجاز مختل لصالح الجبهة السعودية ؛ فإنه من الأفضل طلب الصلح بين الطرفين على نتائج الحرب حينئذ.
في تلك اللحظات التي كان قد أعلن بها وفاة سعود الكبير واستلم الحكم خلفه وابنه عبدالله كانت الظروف السياسية والعسكرية بهذه الصفة ؛ وكما يقول الدبلوماسي البريطاني بالبصرة هارفارد جونز بريدجز أن مجرد وفاة سعود الكبير قد أحدث الخلل بتوازنات الجبهة (( ولإحداث توازن بل أكثر من مجرد توازن [ في هذا الصراع ] بغض النظر عما كانت تبدو عليه أحوال الباشا التي لم تكن تبشر بالخير ؛ فقد أصيب الوهابيون في شهر مايو من هذه السنة 1814م (جمادى الأولى 1229هـ ) بخسارة لا تعوض تمثلت في فقدهم لزعيمهم الكفء الذي كان يتمتع بنشاط لم يكن يعرف الكلل … ))(55).
ومن هنا جاء طلب محمد علي باشا للصلح على الحجاز مع الدولة السعودية (56) بعد أن خسرت الجبهة السعودية أحد أهم نقاط قوتها , إلى جانب الإحباط الذي أصابه من تقلب أحوال هذا الصراع , وصعوبة تحقيق أي انتصارات في ظل الظروف السياسية والعسكرية القائمة والتقدم المتزايد للنجاح الذي بدأ السعوديون يحققونه ؛ بيد أن القيادة السعودية رفضت هذا العرض كما سنورد تفاصيله ؛ فأجبر محمد علي باشا لخوض المعركة الأخيرة قبل رحيله لمصر .
تحالف وتكاتف دولي وإقليمي ضد الدرعية :
جد محمد علي باشا في تدريب جيشه تدريبات شاقة ؛ وطلب الإمدادات من كل وجه ؛ ووجد أن الظروف الخاصة بجبهة التحالف تتحسن باضطراد مع وصول تلك الإمدادات من المال والجمال والرجال , فالإبل قد جيئ بالآلاف منها من بلاد الشام ومن ليبيا (57), فقد وصل مع قافلة الشام في موسم حج عام 1229هـ /1814م حوالي إثني عشر ألف جمل كما يذكر لوريمر (58), أما الأسلحة الحديثة فقد بدأت تنهال عليه من فرنسا كأسلحة حديثة لم يشهدها ميدان الحرب في جزيرة العرب من قبل ؛ وخصوصاً المدفعية الحديثة التي لا يمكن للجيوش السعودية التعامل معها.
كما أن جيوشاً من المرتزقة بدأت تصل من ثغر الإسكندرية , حيث يطلق على كل من الأتراك والأرناؤوط وربما حتى يهود الدونمة أو المسيحيين المرتزقة الذين أطلق عليهم اسم ( الروم أو الأروام ) الذين يأتون من بلادهم ؛ حتى أن ميناء الإسكندرية ربما لا يتسع أحياناً فيدخلون مصر من دمياط ؛ ولعلنا ندهش ونحن نجد كلمة ” الصقلية ” مثلاً أو قول الجبرتي بالحجاج الأتراك مميزاً لهم عن الأروام ؛ أو حتى المغاربة ” ومن معهم من الأجناس المختلفة ” كما يوردها بنصها ؛ ولعل الأكثر تلميحاً هو قوله ” من بلاد الروم وغيرهم ” (59) ومن ليبيا والمغرب ومن السودان .
ولعله في ذات الوقت بدأ محمد علي باشا بتسخين الجبهة الشمالية الشرقية للحجاز ؛ حيث قطاع المدينة المنورة- الحناكية آنذاك , فقد قام الإمام عبدالله بن سعود بحشد قوات نجد متجها بها نحو الرس ؛ ربما لصد أي تحركات قد يقوم بها أو قام بها طوسون من المدينة عبر الحناكية ضد القصيم ؛ ولكن طوال إقامته لم تحدث أية مناوشات بين الطرفين , مما يعني أن محمد علي إنما أراد التمويه للفت الانتباه عن حركة جيشه الرئيسية نحو الجبهة الجنوبية الشرقية للحجاز , وفي تلك الفترة التي بدأ محمد علي من خلال تخمة مالية غير عادية يستميل بعض القبائل في الحجاز , إذ كانت الأموال تنهال عليه من كل جانب إلى درجة أن أسرف إسرافاً ليس له مثيل , فأعطى فقراء مكة , ووزع على القبائل حتى وصلت أمواله إلى داخل الجيش السعودي كما يقول بوركهارت (60).
بل إن الجبرتي يقول مندهشاً وبسخرية لا تخلو من طرح تساؤل كبير حول مصادر محمد علي باشا المالية ؛ حين يذكر إسرافه وتبذيره فقط على العمليات اللوجستية من نقل الذخيرة من ينبع إلى موقع عمليات الجيش بأنها تصل إلى ” خمسة وأربعين ألف فرانسة ” و ” مائة والأربعين ألف فرانسة ” (( وهو شيء مستمر التكرار والبعوث ويحتاج إلى كنوز قارون وهامان , وأكسير ابن حيان )) (61) ؛ بل و قد وصل البذخ والاستمالة حتى شخصيات مهمة كانت قد بدلت ولاءها عنه مثل الشريف راجح الشنبري ؛ ثم بدأ يستميل القبائل النجدية أيضاً , و كان أول المستجيبين له هي قبيلة مطير التي فيما يبدو أن زعيمها فيصل الدويش لم يكن يرضى بالمال فقط ؛ وإنما بوعود كبيرة من قبل محمد علي باشا بأن يكون محل الإمام عبدالله بن سعود نفسه ؛ ولرغبة زعيم مطير بالثأر لقتل الإمام عبدالله بعض أقرباءه – والذين لم يذكر أسباب قتلهم – كما يذكر بعض المؤرخين (62) .
ولذا فقد شعر أو أبلغ الإمام عبدالله بهذه الاتصالات , فجهز جيشاً انطلق به من الرس وأغار بداية على جزء من قبيلة مطير وصادر بعض مواشيهم ؛ ثم أكمل غزوته لضرب أجزاء من قبيلة حرب القريبة من المدينة المنورة , حيث فروا نحو الحرة بعد أن فقدوا بعض القتلى (63) .
ومع ذلك ففيما يبدو أن هذه الإجراءات التأديبية لم تكن من القسوة أو الكفاية بأن تشعر تلك القبائل بسطوة الدولة وتجبرها على العودة إلى صف الجماعة ؛ بل ظلت موالية للغزاة بسبب ميلها لحرية الغزو ؛ ولما يغدقه العدو عليها من الأموال التي لا ينالونها من الدرعية , و ذلك حسب نصيحة شيخ الحويطات ابن شديد الذي قدم نصيحته للغزاة بقوله : (( أن الذي حصل لهم أنما هو من العرب الموهبين – وهم عرب حرب – والصفراء وأنهم مجهودون … والوهابية لا يعطونهم شيئاً , ويقولون لهم ” قاتلوا عن دينكم وبلادكم ” فإذا بذلتم لهم الأموال وأغدقتم عليهم بالأنعام والعطاء , وارتدوا ورجعوا وصاروا معكم وملكوكم البلاد )) وقبل عودته للدرعية , وبعد أن أمضى خمسة أشهر في القصيم جهز الإمام عبدالله أخيه فيصل بن سعود بجيش قاده نحو الغرب لإدارة المعركة في الحجاز من خلال تربة (64).
وإلى جانب ذلك فقد انضم إلى قوات التحالف الأجنبية فرسان تم اختيارهم – أو شراءهم في حقيقة الأمر بإغرائهم بمرتبات ضخمة – من ضمن فرسان العرب المشهورين بقوتهم في الحرب من عدة قبائل حوالي أربعمائة إلى خمسمائة فارس قدم لهم محمد علي باشا مرتبات تقارب ضعف مرتبات جنوده (65) , وهو ما يعني أن محمد علي باشا قد انتقل نقلة نوعية وتغير موقفه العسكري وبشكل كبير قبيل معركة وادي بسل بقليل .
ويبدو أن بعض زعامات الأشراف ولأسباب غير معروفة – سوى الإغراء بالمال الذي بدأ محمد علي باشا يصرفه ببذخ ؛ إلى جانب سلبية القيادة السياسية في الدرعية – قد بدَّلوا ولاءهم السابق للدرعية , وعادوا إلى حظيرة محمد علي باشا بقيادة فارسهم راجح الشنبري , والذي عاد وهو أشد عداء وحقداً على السعوديين ؛ وتثبت الوقائع أن انضمامه لهم لم يكن إلا لمنح محمد علي له من المال ما أغراه ربما بخيانة الدرعية كسلفه الشريف غالب ؛ حيث يذكر الجبرتي و دحلان في خلاصة الكلام أن الباشا قد منح راجح حوالي مائتي كيس من الذهب وعينه رأس حربة جيشه في قاعدة كلاخ بين تربة والطائف (66) .
وإلى جانب ذلك كله فقد أصبحت حالة مستودعاته وقوة معسكراته وقواعده العسكرية ما يطمئنه على أنه أصبح قادراً على النجاح في حربه ؛ ولذا قرر أخيراً التحرك نحو الجبهة الجنوبية الشرقية حيث مدينة تربة.
لقد كانت الوصية الأخيرة للإمام سعود الكبير قبل وفاته , وهو مدرك مدى قوة عدوه , ومدى محدودية قدرات جيوشه على المناورة مقابل أسلحة حديثة كمدفعية التحالف , بقوله للإمام عبدالله (( لا تقاتل الأتراك في أرض مكشوفة))أو (( في السهول المفتوحة )) , ورغم أن قوات التحالف ليست من الكثرة العددية بمكان ؛ بحيث يمكنها أن تتفوق على جيش سعودي واحد , غير أن تلك القوات قد بلغت فيما تذكره بعض الروايات التي نسبت لمحمد علي باشا نفسه , من عشرون ألف إلى خمس وثلاثون ألف جندي في الحجاز إلى جانب قوة الأسلحة الحديثة والتدريب الجيد (67) .
لقد كان جيش التحالف هذا ؛ يُدعمُ من قبل قوى دولية وإقليمية بكل احتياجاته لخوض معركة فاصلة مع السعوديين ومن هذه القوى :
1) اضطر الأمير عبدالله بن سعود منذ بداية الحرب أن يقاتل بعض الإمدادات التركية والعربية في العراق التي كانت حشودها متزامنة مع هزيمة طوسون باشا بوادي الصفراء ؛ إذ غزا العراق في أواخر عام 1226هـ وضرب معسكراً لآل قشعم وعسكر الأتراك , كما يذكر آل بسام في خزانة التواريخ النجدية (68) ؛ وقد ظل العراقيون يدعمون المجهود الحربي للتحالف بقيادة محمد علي باشا حتى حصار الدرعية , حين هبوا لإمداد جيش إبراهيم باشا المحاصر للدرعية في الوقت الذي انفجرت فيه مستودعات الذخيرة في معسكر جيش التحالف عام 1233هـ /1818م (69) .
2) شاركت بلاد الشام بدعم هذه الحرب ضد الدولة السعودية , ضمن مشاركة إقليمية (العراق والشام ومصر ) كأقاليم تابعة للسلطنة العثمانية ؛ وذلك بتقديم ما يزيد عن عدة آلاف من الإبل (بين سبعة وثمانية آلاف ) لتخدم هذا الجيش قبيل خوضه لمعركة وادي بسل (70) .
3) شاركت بلاد المغرب , ممثلة بالقبائل الصحراوية الليبية في هذه الحرب ؛ سواء من خلال دعم محمد علي باشا بآلاف من الإبل , أو بتزويد جيش التحالف بعدة آلاف من الفرسان المرتزقة الذين احتاجهم محمد علي باشا ؛ لتطابق مستوى أساليبهم القتالية مع مستوى السعوديين القتالي , ولعل مما يثير الدهشة ويوجب التساؤل والتوقف حيالهم , أنهم كانوا مسلحين بأسلحة أكثر حداثة من الأسلحة التي يمتلكها جيش التحالف الذي يقوده محمد علي باشا نفسه ؛ فأي جهة كانت وراء تسليح تلك المجموعات ؟ ! (71).
4) شاركت مجموعات محلية من القبائل الحجازية بصفة شخصية أو على شكل مجموعات منفصلة عن القبائل الرئيسية مع قوات التحالف ؛ فإلى جانب القبائل الحجازية الشمالية كقبيلة حرب وجهينة والحويطات ؛ انضمت سواء كانت مجبرة أم تحت إغراءات الهبات المالية العديد من القبائل الحجازية ؛ فقد فتح محمد علي باشا اتصالات ودية مع القبائل الحجازية القريبة من الطائف حتى أقنع قبائل ثقيف وهذيل وبني سعد و جزء صغير من عتيبة للدخول معه في حلف جديد؛ ويبدو أن ذلك الجزء الصغير من قبيلة عتيبة الواقع بين الطائف وكلاخ وبسل قد أجبر على التعاون معه ؛ بعدما قاتلها محمد علي باشا قتالاً منهكاً طاردهم خلالها في جبالهم لعدة أيام , حتى أخضع ذلك الفرع من قبيلة عتيبة – كما يقول بوركهارت – , ورغم ذلك فقد ظل الكثير من أبناء القبائل الحجازية على ولاءهم للدرعية , فكما يقول بوركهارت ؛ بأنهم بعد زيارتهم لمعسكر قيادة محمد علي باشا وتناولهم لمخصصهم من المال والهدايا فإنهم (( يعودون إلى خيامهم ؛ فيخبرون الوهابيين بكل ما رأوه في الطائف )) مما يؤكد أن خضوعها كان تحت الضغط العسكري (72).
5) شاركت عدة جنسيات دولية من خلال شخصيات وقادة أو مجموعات ؛ فاشتغل ببناء السفن لحملة الحجاز حوالي ألف عامل من اليونانيين وأوربيون آخرين ؛ وكان أحد أشهر قادته العسكريين بريطاني من أدنبرة وأسمه توماس كيث الذي تسمى بإبراهيم أغا وقد عد الريحاني تعيين هذا المسيحي كوال على المدينة المنورة من قبل محمد علي باشا نوع من التسامح ؛ وسواء كان في الحملة الأولى أو الأخيرة , فقد ثبت اشتراك غير مسلمين من أوروبيين وغيرهم على مستوى القادة أو على مستوى الجند ففي وادي الصفراء ؛ كما سبق ذكره ؛ كان كثير من القتلى غير مختونين ؛ كما سجل المؤرخين كثير من الضباط أركان حرب وقادة فرق وأطباء وصيادلة فرنسيين وبريطانيين وإيطاليين ؛ بل وحتى قائد فارسي شارك في هذه الحرب؛ حيث ذكر سادلير أنه قابل قائد فارسي كان يقود ويرأس فرقة من الجيش الذي دمر الدرعية , كقائد لمعسكر من معسكرات جيش التحالف هذا قرب الحناكية في عام 1919م وأسمه عجم أوغلان من مدينة تبريز (73) .
6) بلغت قوات محمد علي باشا قبيل معركة وادي بسل قوة ضاربة كبرى وهي كالتالي :
ا) قوة رئيسية مع محمد علي باشا قوامها أكثر من عشرة آلاف من القوات المختلطة من الأتراك والأرناؤوط و الأروام الذين جاؤوا من وراء البحار وهم على الأغلب من المرتزقة الأوروبيون الذين هم – غير مختونين – على حد وصف الجبرتي حيث كشفوا بعد مقتلهم .
ب) قوة تشكل ألف فارس تركي قدموا من الدولة العثمانية قبيل المعركة مع قافلة الحج الشامي لذلك العام (74).
ج) قوات من البدو الفرسان الليبيين ؛ بحيث مع كل منهم فرس وجمل يحمل ذخيرته ومسلح ببندقية ومسدس شارك منهم في معركة وادي بسل حوالي ثمانمائة جندي وقد اشترك نصفهم على الأقل بالمعركة (75).
د) قوة أرسلت من القاهرة قوامها 7000 رجل بقيادة حسين بك (76) .
هـ) قوة محلية من الحجازيين سواء من البادية أو الحاضرة – كما ذكر بوركهارت – بينهم أشجع فرسان العرب الحجازيين الذين تم اختيارهم بعناية فائقة , وأعطيت لهم مرتبات عالية هي ضعف مرتبات جيش التحالف , وبلغ عددهم بين أربعمائة وخمسمائة فارس ؛ حيث أعطيت قيادتهم للشريف راجح , وقد كانت قوة ضاربة عوَّل عليها محمد علي باشا كثيراً (77) .
الفصل الثالث : معركة وادي بسل :
بعد أن استلم عبدالله بن سعود مهماته كإمام للدولة في الدرعية , قرر أو ربما فُرض عليه من قبل الأسرة العمل وفق أسلوب مختلف عن أسلوبه هو في الحرب وإدارة المعركة , وعين أخوه فيصل بن سعود – زعيم الجناح المتشدد في الأسرة السعودية أو ربما ما يسمى في عصرنا بزعيم ” جناح الصقور ” في القيادة السعودية إذا كان من الجائز أن نصف الإمام عبدالله بأنه زعيم ” جناح الحمائم ” – عينه قائداً للجيوش السعودية , ونرجح أن قرار الحرب في معركة بسل قد اتخذ على أعلى المستويات , لأنه اتخذ وفق أسلوب مختلف تماماً عن الطريقة والإستراتيجية التي يتبعها الإمام الجديد خلال حروبه , ووفق إستراتيجية الإمام سعود الكبير في معركة وادي الصفراء , ومن خلال فترة الحرب التي أديرت بالقصيم بعيد مبايعته بالدرعية كإمام للدولة ؛ حيث لم تأت بأية نتائج إيجابية ؛ غير أن قرار إرسال فيصل إلى تربة من القصيم , وقيام الأخير كما يذكر ابن بشر (78) ؛ باستنفار الرعايا التابعين للدرعية في الحجاز وتهامة وعسير , يجعل من المحتمل التكهن بتغيير جذري في إستراتيجيات الدرعية في تلك الشهور الأولى من حكم الإمام الجديد وعلى غير رأيه وإستراتيجيته .
ويبدو أن قرار خوض المعركة لم يقرره الإمام بالفعل , وإنما اتخذ من قبل إجماع الأسرة المالكة والعلماء , وكان قراراً في غاية الأهمية ؛ فيما لو التزمت الجيوش بوصية الإمام سعود الكبير بعدم القتال بأرض مكشوفة , والتي كانت هي إستراتيجية محمد علي باشا التي يسعى إلى جر الجيوش السعودية للقتال في منطقة بعيدة عن الجبال ؛ حيث كان الباشا يعرف مدى الكارثة المحققة على جيوشه ؛ فيما لو قاتل الجيوش السعودية في الجبال كما حدث في معركة وادي الصفراء.
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه هو ما أورده الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب في مقاماته المطبوعة في الجزء التاسع من الدرر السنية في الأجوبة النجدية , أنه حدث خلاف وانقسام في القيادة السعودية ؛ وعلى رأسهم أولاد سعود الكبير, وانقسم المسلمون فرقتين (( جانب مع عبدالله , وجانب مع فيصل أخيه , فنزل الحناكية عبدالله , ونزل فيصل تربة ؛ باختيار وأمر من أخيه (؟!)… فراسل [ محمد علي باشا ] فيصل بن سعود هناك , فطلب أن يصالحه على الحرمين فأبى فيصل وأغلظ له الجواب وفيما قال :
لا أصلح الله منا من يصالحكم حتى يصالح ذئب المعز راعيها
فأخذت محمد علي العزة والأنفة فسار إلى بسل )) (79) .
الحرب النفسية بين الطرفين :
كان فيصل بن سعود يتصف بكبرياء النفس والهمة والقوة والشجاعة التي قد لا يشابهه فيها إلا القليل في زمانه بعد والده (( فكان رحمه الله شجاعاً مقداماً مهيباً ديناً يضرب به المثل في زمانه بالشجاعة )) على حد وصف ابن بشر (80)؛ حيث أرسل تلك الرسالة التي يقطع فيها كل أمل للصلح مع محمد علي باشا , وهي رسالة تهديد مليئة بعبارات الغطرسة على محمد علي باشا , وأنَّى لرجل غليظ الطباع كمحمد علي باشا أن يقبل مضمونها , وخاصة من العرب الذين لا يرى – آنذاك – أنهم يستحقون العمل كجنود في جيشه ,ولعل فيصل في حقيقة الأمر معه حق في ذلك , وهو أمر كان ضرورياً إلى أبعد الحدود في تلك المرحلة الخطيرة من الحرب النفسية بين الطرفين والتي تسبق الحرب العسكرية عادة ؛ كما بد من وضع رجحان الكفة العسكرية السعودية بالميدان بالحسبان ؛ فقد توالت الهزائم على قوات التحالف في القنفذة ولية وتربه وغيرها فلم يكن موقف الأمير فيصل آنذاك موقفاً خاطئاً في رفضه للصلح .
ولم يكن فيصل بن سعود أكثر حماساً من بقية قياداته العسكرية , فقد كان بخروش الزهراني زعيم قبيلة زهران أشد غطرسة وأشد حماسة ؛ حين أرسل رسالة تهديد لمحمد علي باشا بأسلوب تهكمي لاذع , وكان مما قال في رسالته لمحمد علي باشا : أن على محمد علي إذا أراد الانتصار بهذه المعركة أن يأتي بجنود أفضل من جنوده الذين يقودهم , وأن أعقل خطة يمكنه أن يتبعها هي أن يعود إلى مصر ليستمتع بماء النيل , وأن لديه – أي بخروش- أدلة كافية عما يمكن للسعوديين أن يفعلوه بهذه المعركة كما يورد بوركهارت (81).
وكان محمد علي باشا أيضاً يلعب بنفس اللعبة , لعبة الحرب النفسية لتحطيم معنويات الخصم , وتقوية معنويات جيشه , فقد جلب جيشاً من النجارين لقطع النخيل في تربة , وحملت مع الجيش خمسمائة فأس لتنفيذ تلك المهمة , إلى جانب الألغام والمتفجرات التي أعلن أنها لتدمير مباني المدينة , وإمعاناً في تحطيم المعنويات للجانب السعودي فقد حمل أحمالاً من حب البطيخ من وادي فاطمة لبذر حب البطيخ على أنقاض تلك المدينة , حيث حملت أحمال الحب من خلال أسواق مكة زيادة في رفع معنويات جيشه , وحرباً لمعنويات أعدائه وإشهاراً لهذه المعلومات الدعائية ؛ بل إن خيال محمد علي باشا لشحذ همم جنوده وإعادة ثقتهم بأنفسهم وقيادتهم كما يرى بوركهارت ؛ قد وصل به الأمر إلى القبض على 13 بدوياً من قبيلة عتيبة جاؤوا لجدة من أجل التموين ؛ واتهمهم بأنهم لصوص وهابيون وأعدموا في سهل قرب مكة أمام حشد كبير من الناس المتعاطفين مع اللصوص المزعومين , وقد تعالت أصوات الناس مؤيدين لأحدهم حاول الهروب ؛ كما أمطروا الجنود بأقذع الشتائم والسباب – كما يورد بوركهارت – ؛ مما يؤكد أن القاعدة الشعبية كانت ضد جبهة التحالف المحتلة للحجاز بقيادة محمد علي باشا (82) .
نحو المعركة :
كان فيصل بن سعود رجلاً شجاعاً ولكن مع ذلك فإنه كما يبدو كان متحمساً كتحمس جيشه وكان هو يقود أكبر جيوش الدولة حينئذ على قدر تلك المسئولية بما يتحلى به من صفات قيادية ؛ ولعله كان يستعد لحصد نتائج التفوق العسكري الميداني على قوات التحالف وفي معركة فاصلة حاسمة , سيكون لها ما بعدها بما ستقرره من مصير الحرب ذاتها , ويبدو أن الهزائم التي منيت بها قوات التحالف في تربة والقنفذة وبحرة وجنوبي لية , والعجز الذي أصاب تلك القوات عن تحقيق أية انتصارات في المرحلة السابقة , قد جعلت من القوات السعودية تأتي للمعركة وهي واثقة بدون أية نسبة ولو ضئيلة من الشك من أنها ستنال نصراً سهلاً , وكانت معنويات طامي بن شعيب وبخروش وفيصل بن سعود العالية ومدى حماسهم للنزال والحرب تعطي صورة إلى أي حد كانوا موقنين من النصر , وهو ما يخالف سنن الله , فمعركة حنين لم يؤت المسلمون إلا من الإعجاب بكثرتهم , وهنا في معركة وادي بسل كانت الجيوش السعودية معجبة بقوتها وكثرتها وانتصاراتها وجبن عدوها .
ولشدة حماس تلك الجيوش التي بدأت تتجمع وتتوافد من كل حدب وصوب إلى المعركة الفاصلة – وبحماس يثير الإعجاب بكل المقاييس – ولإنقاذ مدينة تربة التي توجهت إليها قوات التحالف , فقد جاء فبصل بن سعود بقوات نجد والشمال , ووصل طامي بن شعيب بقوات عسير المجاهدة والتي تتحرق للقتال إلى الدرجة أن طلق رجال جيش عسير نساءهم قبل مغادرتهم لأسرهم في عسير ألا يفروا أمام الأتراك , وألا يعودوا إن قدر لهم أن يعودوا إلا بالنصر (83) .
وكان قد تقدمهم ابن ملحة شيخ قبائل عسير أو أحد أكبر زعمائهم , وابن خرشان بأهالي تربة المعبئين للحرب لأنهم المعنيين بالأمر بالدرجة الأولى بالإبادة التي متجه محمد علي باشا لتنفيذها ؛ فالحرب النفسية والعسكرية تستهدف استئصالهم بالدرجة الأولى , ووصل بخروش بفرسان غامد وزهران , وابن دهمان بقبيلة شمران , وفهاد بن سالم بن شكبان بأهالي بيشة , وابن قطنان بقبيلة سبيع , والقثامي بالجزء الأكبر من قبيلة عتيبة , وغصاب العتيبي بالخيالة السعودية وجيش الدرعية والقصيم ؛ وكان ضمنهم أيضاً ابن ماحي أو ابن ناحي بقبيلة الدواسر.
وكان الجيش السعودي يقدر بما يقارب من خمسة وعشرين ألف رجل وقليل من الفرسان حسب ما يراه بوركهارت , بينما يذكر ابن بشر وابن ضويان في تاريخه أنهم يزيدون عن ثلاثون ألف رجل ؛ ويقدره أمين الريحاني أنه بلغ أربعين ألف مقاتل ؛ ويبدو أنه قد استقى معلوماته من رسالة محمد علي باشا لأهل المدينة المنورة بعيد المعركة ؛ وكان الجيش السعودي بقيادة فيصل بن سعود الكبير , ولربما بالغ محمد علي باشا وهو يحدد عدد الجيش السعودي بعد معركة وادي بسل بقليل حين قال (( وكانت خطتنا أن ننطلق بسرعة إلى تربة لنتصدى هناك لقوات الخوارج المتحدة بقيادة زعيمهم فيصل بن سعود ومن معه … حتى وصل عددهم إلى أربعين ألف رجل ))(84).
وفي حقيقة الأمر فإنه من العجيب أن لا يتحدث أحد من المؤرخين عن عدد جيش التحالف وكأنه سر من الأسرار المحرم الخوض بها ؛ فرغم أن المؤرخين الغربيين كبوركهارت يرى أن لديه حوالي عشرون ألف مقاتل ؛ فإن هارفارد جونز حاول أن يتجاهل العدد بقوله ((خرج الباشا من مكة وبصحبته جميع القوات التي استطاع حشدها )) بينما يرى الرافعي أن قوات محمد علي باشا ((في نحو أربعة آلاف مقاتل )) (85) .
لقد كانت فرق الجيش السعودي تزحف نحو أرض المعركة وهم يعلمون أنها الفاصلة , ولا نغالي أن المعلومات التي وردت إلى محمد علي باشا قبيل المعركة عن تحرق تلك الفرق للمعركة الفاصلة ؛ هي واحدة من الأسباب التي جعلت محمد علي باشا يعرض على قائد الجيش السعودي وزعيم الجناح المتشدد بالقيادة السعودية الصلح قبيل المعركة الفاصلة ؛ ولعله مما يعطي دليلاً ترجيحياً على مصداقية هذا الرأي ؛ هو أن محمد علي باشا لم يرسل طلب الصلح بينه و بين الدولة السعودية إلى الإمام عبدالله في القصيم , والذي هو بطبيعة سياسته يتحرق شوقاً إلى الصلح ؛ كتحرق أخيه فيصل إلى الحسم العسكري ؛ وإنما أرسل الرسالة إلى قائد القوات السعودية القادمة بعزم و تحد وحد وحديد لإنهاء هذا الفصل من المواجهة بين جبهة التحالف وبين القوات السعودية , وكان رد قائد القوات السعودية مهيناً لكرامة رجل ألباني جلف غليظ الطباع حين قرأ رسالته التي يقول فيها :
لا أصلح الله فينا من يصالحكم حتى يصالح ذئب المعز راعيها
فقرر الباشا – قائد قوات التحالف – المواجهة وفق الخطة الموضوعة أمامه رغم أنه لم يكن حتماً على يقين بنجاحها , وإنما كان موقفه موقف ” وما حيلة المضطر إلا ركوبها ” , لقد كان أتباع الدولة السعودية قد استعادوا ثقتهم بأنفسهم ؛ كما استعادوا زمام المبادرة , وهو ما يعبر عنه بوركهارت بقوله عن السعوديين : (( الذين كان عدم نشاط الباشا فترة طويلة قد شجعهم على نهب الإبل التابعة له من عند أبواب مكة والطائف , وبدأ البدو يظهرون احتقاراً لقوة الباشا الذي سبق أن كرهوه لغدره )) , بل إن نشاط طامي بن شعيب قد هاجم مدينة جدة ذاتها في أغسطس عام 1814م / 1230هـ كما يذكر بوركهارت الذي سمع بنادق الجيش السعودي أثناء هجومها على هذه المدينة الساحلية الهامة ؛ حيث أثار الجيش السعودي الرعب هناك , وصادروا كثير من الأمتعة ومخيمات أو معسكرات جيش محمد علي باشا , كما صادروا قافلة تجارية ؛ في حين ولّى جنود محمد علي باشا نحو مكة هاربين من المعركة المفاجئة التي أخذتهم على حين غرة (86) .
ولعل إرسال طلب الصلح لفيصل بن سعود يعطي فكرة أيضاً على أن محمد علي باشا يعلم أدق تفاصيل الموقف السعودي بجناحيه المسالم “الحمائم ” والمتشدد ” الصقور ” , فكما وصلت أمواله قبيل معركة وادي بسل إلى داخل الجيش السعودي – حسب تعبير بوركهارت – ؛ فيبدو أن جواسيسه أيضاً كانوا قد علموا بما يدور داخل القيادة السعودية ؛ ولكنه مع ذلك فقد أراد الله سبحانه شيئاً غير الصلح , لأنه لو أرسل هذا الطلب إلى الإمام عبدالله في القصيم لكان قد تم التوصل إليه ولو مؤقتاً .
ولعلنا نستنتج من الأحداث في جبهة الحجاز الجنوبية وحتى الساحلية – منذ ما بعد معركة الصفراء وحتى قبيل وفاة الإمام سعود الكبير – ؛ هو أن الجيش السعودي كانت لديه القدرة على شل قدرة الخصم وإلحاق الهزيمة به كما حصل في وادي الصفراء والقنفذة وغيرها ؛ بيد أن سياسة ولي العهد عبدالله بن سعود آنذاك وقائد الجيش بانسحاباته المتكررة من وادي الصفراء إلى وادي الريعان ؛ حيث التقى بالإمام سعود قبل مغادرته لمكة , ثم إنسحابه إلى العبيلاء ثم إلى الخانوقة , حيث بقي هناك حتى وافت المنية والده الإمام سعود الكبير دون أن يقوم بجهود ملموسة في المقاومة أو الهجوم على العدو أو قطع طرق مواصلاته ؛ كانت مسئولة عن ذلك الفشل ؛ وهو الوصف الذي يقوله بوركهارت (( أما زعيمهم فبقي في الحجاز ساكناً سكوناً يصعب تفسيره ))(87) وهو ما يذكره سعود بن هذلول حين يتساءل : (( أن الإمام سعود أرسل نجدات إلى المدينة … ثم عاد إلى نجد قال : ولم نعلم السبب في عودته وهو يعلم أن طوسون مرابطاً في ينبع ينتظر النجدات ؛ وأن عرب الحجاز يتذبذبون بينه وبين أهل نجد , وقد ينقلبون عليه ))(88) , ورغم أن بوركهارت يعني الإمام سعود بهذا الوصف إلا أن هذه الحقيقة تنطبق على ولي العهد , كل ذلك قد أصاب الجبهة السعودية بالشلل ؛ ولكن حين ترك الجبهة ليستلم الإمامة بالدرعية ؛ بدأ القادة العسكريون من أمثال بخروش زعيم غامد وزهران وغالية الوهابية بقبيلة البقوم و طامي بن شعيب بقبائل عسير وقحطان وغيرهم ؛ يجدون فرصة لاتخاذ قرارات عسكرية نشطة ؛ بحيث فعَّلوا النشاط العسكري ضد قوات التحالف التي أصيبت بالخمول والإحباط نتيجة النكسات المتلاحقة خلال عامي 1813-1814م / 1229-1230 هـ .

الفصل الرابع :اختيار أرض المعركة :
لقد حدد محمد علي باشا أرض المعركة سلفاً واختار أن تكون مدينة تربه حيث السهول التي تمكنه من تحقيق انتصار سهل كان يتوق إليه , ربما لأنها مفتاح الطريق نحو عسير والتي ربما اختارها لكي يؤمن ميمنة الحجاز قبل التوجه نحو الدرعية للقضاء عليها ؛ بحيث أهَّلها هذا الموقع الإستراتيجي – تربه – إلى أن تكون مركز عمليات الجبهة السعودية الجنوبية , تلك المدينة – العقبة الكأداء – التي طالما أذاقت جيش التحالف الذل والهوان ؛ وخاصة على يد غالية البقمية ( الوهابية ) , ولم تكن الحرب النفسية التي أعلنها محمد علي باشا مجرد تمويه , فقد تحرك من مكة في 26 محرم 1230هـ /7 يناير عام 1815م (89).
ولكن قيادة الجيش السعودي فيصل بن سعود وقادته قرروا أن يختاروا موقعاً آخر يناسبهم وفق وصية الإمام سعود الكبير , كما قرروا أن يعلنوا عزمهم على القيام بهجوم هو مجرد تمويه عن الهدف الحقيقي ؛ حيث أُعلن أن الهدف الذي تتوجه إليه القوات السعودية هو القنفذة , ولكنهم توجهوا مسرعين نحو هدفهم واحتلوا منطقة وادي بسل ؛ في وسط خطوط قواعد جيش التحالف ذاته بين مكة والطائف وكلاخ , وتحديداً كل الجبال المحيطة بقاعدة كلاخ التابعة لجيش محمد علي باشا , حيث كانت مفاجأة كبرى للأخير ؛ الذي وصله الخبر كالصاعقة ؛ وهو لم يتحرك بعد من المحطة الثانية في مسيرة جيشه في ( الزيمة ) بين مكة والطائف ؛ وبهذا فقد أجبر على التوجه إلى حيث اختار الجيش السعودي أرض المعركة التي تناسبه تماماً , ويبدو أن خطة الجيش السعودي إلى جانب اختيار أرض المعركة في أرض وعرة التضاريس بعيدة عن السهول ؛ فقد تمكن أيضاً من قطع المواصلات بين الطائف وكلاخ , كما قد تمكن من احتلال كافة موارد المياه في أرض المعركة , وإلى جانب التمويه بهجوم جانبي على القنفذة فإنه في الوقت كانت تلك الفرقة تقوم بعملية تطويق لجيش التحالف من الخلف لتطويقه كالسوار على المعصم لإبادته في هذه المعركة الفاصلة ؛ لقد كانت البداية موفقة ومشجعة جداً للجبهة السعودية كما هي مخيبة للآمال لجبهة التحالف .
وفي الوقت الذي ألقت قبيلة عتيبة التي كانت المعارك تدور في أرضها بثقلها وولاءها – خاصة والمعركة تدور على أرضها – وقت المعركة للدولة السعودية أسوة بقبائل تلك المنطقة , حيث جاءت بقواها الرئيسية للمعركة , عدا فرع صغير منها– كما يذكر بوركهارت وهارفرد جونز – والذي أجبر على أن يظل موالياً لسيد الحجاز الجديد محمد علي باشا بعد مطاردتهم في الجبال , كان جيش الأشراف وبعض فرسان العرب الذين اعتنى محمد علي باشا باجتذابهم بقيادة عميل الباشا الجديد راجح الشنبري ومن معهم من الموالين لمحمد علي باشا ؛ يواجهون ويهاجمون جزء من الجيش السعودي الذي هاجم فرع قبيلة عتيبة القليلة الحجم الذي خضع لمحمد علي ويعمل على تطويق لجيش التحالف ويصدوا الهجوم السعودي بعنف ويفشلوا عملية التطويق (90) .
وبعد أن نجح راجح لحق وهو ومن معه بمحمد علي باشا في سهل وادي بسل , وكان محمد علي باشا الذي يحمل معه حوالي اثني عشرة مدفعاً ؛ بينما لم يكن لدى الجيوش السعودية أية مدفعية تذكر – وهي ما تضع علامات استفهام كبرى حول موقف الإمام عبدالله من هذه المعركة ؛ ذلك أنه إبان حصار الدرعية تبين أن لديه مدفعية كبرى كما يذكر ابن بشر (91)- ويظل السؤال كبيراً حول الأسباب التي منعته من تقديمها لأخيه فيصل بن سعود الكبير والقوات السعودية في هذه المعركة الفاصلة والهامة ؟ !.
كانت خطة الدرعية تدل على أن الجيش السعودي قد طبق كامل الاستعدادات التي يفترض أن يقوم بها من أجل معركة طويلة ونهائية مع عدو قوي , ووفق ما يتناسب مع ظروف المعركة حسب قدراته وطبقاً لقدرات عدوه القوي , فالأرض قد تم اختيارها بعناية فائقة , واحتلال الجبال وموارد الماء تدل على معرفة دقيقة بطبيعة المنطقة , وعنصر التمويه وتحويل الأنظار قد استخدم على أكمل وجه , وعنصر مفاجأة وإرباك الخصم كانت في أقوى حالاتها , ففي الوقت الذي كانت قيادة جبهة التحالف قد توقعت مفاجأة قوية من الجيش السعودي بمحاولة الالتفاف نحو الطائف ومكة وجدة ؛ إذا بها تفاجأ أن الجيش السعودي قد اتخذ مواقعه في أفضل المواقع العسكرية التي تناسب خططه وبعيداً عن مدينة تربة .
بدء المعركة الحاسمة :
وبينما كان محمد علي باشا الذي فوجئ بأن خصمه قد اختار أرض المعركة بما لا يتناسب مع خططه المعدة مسبقاً ؛ فقد قام بمجرد وصوله لأرض المعركة بمحاولة إشغال الجيش السعودي الملتف عليه من الخلف – كما يذكر بوركهارت – بالشريف راجح وفرقته التي هي من أشجع فرسان العرب على الإطلاق , والذي تمكن من صد هجوم الجيش السعودي بعنف ؛ ولعل بوركهارت لم يوفق في معرفة السبب الحقيقي الذي تستهدفه تلك الفرقة من الجيش السعودي الملتفة من خلف جيش التحالف وهي تلك الخطة التي رمز لها بخروش حين قال أن ” لديه – أي بخروش- أدلة كافية عما يمكن للسعوديين أن يفعلوه بهذه المعركة ” (92), تلك الفرقة من الجيش السعودي كان هدفها إحكام الطوق على جيش التحالف , بعد إخضاع قبائل المنطقة بحيث يتم إبادة جيش التحالف نهائياً في هذه المعركة فتفتح أبواب الحجاز للجيش السعودي على مصراعيها بعدئذ .
وقد غير الباشا خططه واضطر التوجه إلى حيث موقع الجيش السعودي وباشر المعركة بالحال ؛ وبينما كان محمد علي باشا يبذل جهداً كبيراً , ومحاولات يائسة طوال يوم الخميس ( الأول من المعركة ) لوضع مدفع ميدان واحد فوق أحد الجبال ؛ من أجل ضرب مواقع الجيش السعودي حين يبدأ القتال ؛ ولكن الجيش السعودي بدأ بالتعامل مع خطة محمد علي باشا مباشرة ؛ بحيث تمكنوا من منع جنود التحالف من وضع المدفعية في مواقع مشرفة على الجيش السعودي ؛ وقد خسر جيش التحالف العديد من الخسائر في جنوده وفرسانه الذين عبثاً حاولوا أن يحتلوا مواقع السعوديين .
وحين بدأت المعركة بينت نتائج اليوم الأول منها معنويات عالية من قبل الجيش السعودي , وانهيار بمعنويات جيش التحالف ؛ إلى الدرجة أن هرب من المعركة في الليلة الأولى أعداد كبيرة من جنود محمد علي باشا ؛ ووصلوا مكة مطلقين إشاعات عن هزيمة كبرى لجيش التحالف , ومقتل محمد علي باشا نفسه – كما يروي شاهد العيان المؤرخ بوركهارت- ؛ حتى أن الذعر استولى على الأجانب بمكة المكرمة في فرار جماعي نحو جدة استعداداً لمغادرة الحجاز , ويصف بوركهارت المشهد العام أن العديد من الأجانب لبسوا ملابس بدوية خوفاً من ساعة دخول الجيش السعودي لمكة المكرمة ؛ باعتبار أن المعركة قد حسمت ؛ بل يروي الجبرتي أن أخبار الهزيمة الساحقة لجيش التحالف وجرح محمد علي باشا أو قتله , قد وصلت إلى مصر ؛ بحيث اتخذت الكثير من الاحتياطات من قبل رجال الدولة بمصر منها انتقال الأرناؤوط من مساكنهم المختلفة في أنحاء القاهرة إلى القلعة بنسائهم ومتاعهم , ووصل الأمر إلى اتفاق رجال الدولة ” عظماء الدولة ” – حسب تعبير الجبرتي – على تنصيب إبراهيم بن محمد علي باشا على حكم مصر, بل ونوقشت حتى طبيعة الموكب الذي يبايع به خلفاً لأبيه (93).
أما المعركة الميدانية في اليوم التالي يوم الجمعة فقد اتخذت منحى آخر , إذ عرف الباشا أنه لن ينتصر على الجيش السعودي ما دام ذلك الجيش يحتل تلك المواقع الحصينة في الجبال , ومع أنه حاول مرة أخرى الاعتماد على القصف المدفعي , غير أنه لم يحرز أي نتيجة إيجابية تذكر , فرسم خططه ليلاً على العمل على جر الجيش السعودي من الجبال إلى سهول كلاخ , واجتمع بضباطه فأمر المشاة والمدفعية أن يتخذوا كميناً في جناح الجيش السعودي , في حين أمر الجنود أن يقتربوا من مواقع السعوديين ثم يتراجعوا بشيء من الفوضى ؛ للإيحاء أن جيش التحالف قد فقد السيطرة على معنويات جنوده وأنهم في حالة هزيمة , وهو ما يذكره محمد علي باشا نفسه في رسالته لأهل المدينة المنورة (( وعند اقترابنا منهم انتشروا فوق الجبال , وأبدوا مقاومة صامدة , لكن جنودنا نذروا أنفسهم لواجبهم , وبعد قتال عنيف أعادوهم إلى مراكزهم الحصينة , وحينئذ بقينا نهاجمهم تحت نيران متصلة , ونحاول أن نستدرجهم إلى السهل , وكان جنودنا منهمكين في ذلك من شروق الشمس حتى الغروب … ثم هاجمنا العدو أخيراً عند انبلاج اليوم التالي , فلم يصمدوا أمام هجومنا الأول , بل هربوا …)) وقد حصل مطاردات للخيل , وكر وفر وقتال شديد , وقتل الكثير من جنود التحالف , كما فر الكثير منهم (94) .
ويبدو أن الفرسان الليبيين هم الذين قاموا بعملية الاستدراج , ونجحت الخطة ؛ إذ دبت الفوضى بالجيش السعودي الذي ظن أن هذه هي اللحظة المناسبة لمطاردة العدو , فتركوا مواقعهم الحصينة بالجبال , ونزلوا نحو سهول كلاخ يلاحقون المنهزمين , وحينها أغلق الطريق بين الجيش السعودي الذي يتعقب من تصنع الهزيمة من جيش التحالف وبين زملائهم في أعالي الجبال وكانوا مشاة ليس فيهم فرسان فأصبحوا بيد فرسان التحالف , ويذكر ابن بشر أن الكسرة الأولى كانت من غامد و زهران ؛ وقد يكون ذلك صحيحاً , فزعيمهم بخروش كان أشد قادة الجيش السعودي حماساً للمعركة ؛ وتحدياً لمحمد علي باشا , ورغبة في تدمير جيش التحالف ؛ بل وأسر محمد علي نفسه , ثم جاءت الضربة الثانية لرجال عسير الذين قاتلوا بشراسة منقطعة النظير (95) .
وبهذا فقد أصبح الجيش السعودي في حالة حصار من قبل عدوه ؛ في حين احتل مشاة جيش التحالف مواقع الجيش السعودي فوق الجبال الحصينة , ثم جاء دور المرتزقة العرب بقيادة راجح الشنبري – الذي ألحقت به فرقة الفرسان العرب وهم حوالي خمسمائة فارس من أكثر فرسان العرب شجاعة كان الباشا يصرف لهم ضعف مرتبات ضباطه – و الذي وصل للتو لأرض المعركة بعد أن صد الهجوم السعودي من الخلف ؛ حيث كان الجيش السعودي يقوم بعملية تطويق لجيش التحالف , فقام راجح بقطع طريق الانسحاب للجيش السعودي من خلف وادي بسل , حيث أغلق طريق الانسحاب في طرف الوادي في وجههم وبذلك حدثت الفوضى بالجيش السعودي وحلت الهزيمة (96) .
وهنا فقد كان راجح الشنبري يعرف بخطط الجيش السعودي قبل تبديل ولائه نحو محمد علي وجيش التحالف ؛ ولذا فقد أفشل الخطة السعودية بتطويق جيش التحالف , وقام بتطبيق الخطة ذاتها على الجيش السعودي فأغلق طريق الانسحاب في وجههم حتى يتمكن من إبادة الجيش الذي كان يعمل في صفوفه .
وهنا أعلن محمد علي منح ستة دولارات لكل من يأتيه برأس جندي سعودي وبينما قتل حوالي ستة آلاف وخمسمائة من الجيش السعودي , وأسر ثلاثمائة بأمر من محمد علي باشا , هزم الجيش السعودي هزيمة كبرى غير متوقعة , بينما أنعم محمد علي باشا على زعيم المرتزقة العرب راجح الشنبري بخيمة قائد الجيش السعودي الأمير فيصل بن سعود وما فيها حيث خاب أمله حين لم يجد بها سوى ألفي دولار كما يذكر بوركهارت (97) .
ونحن في صدد تحليل ما حدث في هذه المعركة الكبرى التي حشد فيها الطرفان جل قواتهما ؛ يفاجئنا ابن بشر برواية لا يمكن لنا في حقيقة الأمر الاقتناع بها ؛ ولكن يمكن لنا البحث فيما وراءها وتفسيرها ؛ وحيث يختلف على عدد الشهداء السعوديين في معركة وادي بسل كل المؤرخين السعوديين , فيقول ابن بشر (( ووقى الله المسلمين شر القتل وكف أيدي الروم عنهم وعن ساقتهم , ولم يقتل إلا أقل القليل نحو المائة )) (98) ؛ بينما يذكر عبدالله ال بسام في خزانة التواريخ النجدية : أنه قتل ممن مع فيصل بن سعود “خلق كثير ” (99) , ويمر عليها محمد بن عمر الفاخري مروراً عابراً فيقول في عام 1230هـ (( وفيها وقعة بسل على فيصل بن سعود ومن معه , قتل فيها من قتل )) (100), ولكن مما يثير التساؤل أكثر حول هذه الرواية لابن بشر أنه يعود فيقول : (( وتفرق أكثر الجموع ؛ فتوجه فيصل ورؤساء قومه , وهم طامي وفهاد بن سالم بن شكبان ومصلط بن قطنان وغيرهم إلى تربة , وهم يظنون أن الناس يجتمعون فيها بعد الهزيمة فوجدوهم قد تفرقوا ))(101) وهو ما يورده موسيل حين يقول (( لقد حقق [فيصل ] في البداية عدداً من الانتصارات ولكنه تعرض في بداية عام 1230هـ / 1815م لهزيمة قاسية في بسل بالقرب من تربة ؛ وتفرق على إثرها جنود جيشه ))(102).
ويبدو أن محمد علي باشا في هذه النقطة أكثر دقة من معلومات ابن بشر ؛ حيث قدرة جواسيسه الوصول إلى عمق الجيش السعودي ؛ إذ يقول برسالته التي أشرنا إليها أعلاه (( وكان فيصل قد لجأ إلى هناك [ يعني مدينة تربة ] مع خمسين خيالاً ومائة من راكبي الإبل الباقين من جنوده )) (103).
لقد أبدى جنود الجيش السعودي الذين لم ينسحبوا إثر الهزيمة مباشرة مقاومة عنيفة ؛ فقد ربط أهالي عسير أنفسهم بحبل واحد ؛ لكي لا يهربوا وظلوا يقاتلون حتى آخر رمق فيهم ؛ حيث بعد أن انتهت ذخائرهم تم القضاء عليهم , ولكن يبدو أن القيادة قد انسحبت من المعركة وسط ذهول الهزيمة وانسحاب الجنود بشكل فوضوي .
وبينما كانت خسائر جيش التحالف حوالي خمسمائة قتيل ؛ فقد كانت خسائر الجيش السعودي عظيمة , ويجمل بوركهارت أسباب هزيمة الجيش السعودي بما يلي ((كانت هزيمة السعوديين نزولهم من الجبال إلى السهل ؛ إذ لم تكن لديهم أية وسائل لمقاومة الفرسان الأتراك , وكان سعود قد حذر ابنه في كلماته الأخيرة التي وجهها إليه من القيام بمثل ذلك , لكن احتقارهم للجنود الأتراك , ورغبتهم في إنهاء الحملة , وربما رغبتهم في اعتقال محمد علي باشا شخصياً ؛ من الأمور التي جعلتهم ينسون الأسلوب الحكيم الذي اتبعوه في الحرب من قبل , وكانت دهشتهم حين وجدوا أنفسهم مغلوبين فجأة هي التي جعلتهم غير قادرين على المقاومة )) (104) ومن المعروف أن فرسان الجيش السعودي – كما يذكر هارفرد جونز (( كانوا قليلين جداً )) (105).
غير أننا بشكل عام يمكن أن نفسر أسباب تلك الهزيمة للجيش السعودي بأنها تكمن في عدم أخذ ذلك الجيش العبرة من نتائج غزوتي أحد وحنين اللتين هزم بهما صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فعصيان الرماة لتعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم ونزولهم من جبل الرماة بجبل أحد لأخذ الغنائم قلبت موازين تلك المعركة , كما أن عدم تنفيذ الجيش السعودي لتعليمات سعود الكبير لهم قبل وفاته ؛ بعدم القتال في أرض مكشوفة في ظل تفوق تسليحي خطير للعدو ؛ بحيث تركوا أعالي الجبال التي يسيطرون من خلالها ويشرفون على عدوهم في السهول أسفل منهم ونزلوا إلى السهل المكشوف بحيث أصبح المشاة عرضة للقصف بالأسلحة الحديثة ولمواجهة سلاح الفرسان المتفوق ؛ كان ذلك كله سبباً للهزيمة هنا في معركة وادي بسل , وكما اغتر المسلمين بكثرتهم في معركة حنين , فقد اغتروا بشجاعتهم وقوتهم الشخصية وكثرتهم ؛ وجبن جيش التحالف هنا في وادي بسل , وظنوا أنهم منتصرون لا محالة ونسوا أن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء .
ولعل التفسير المنطقي الوحيد – من وجهة نظر الباحث – الذي يفسر انقلاب الظروف المواتية للجيش السعودي لتحقيق نصر ساحق , وفجأة , إنما تكمن في حدوث انشقاق أو خلاف قبيل و إبان المعركة , ولعل هذا الرأي يؤيده نص واحد أورده عبدالرحمن الرافعي : حيث يقول : ((وكان الوهابيون قد جمعوا من المقاتلة نحو عشرين ألف حشدوهم بقيادة فيصل بن سعود بين بسل وتربة وكان هم عدا ذلك احتياطي من نحو عشرة آلاف مقاتل )) (106)؛ وهذا النص يعطينا تفسيراً قوياً لما حدث من لغز كبير ؛ فالخلاف الذي وقع بين أبناء سعود الكبير والأسرة الحاكمة حول إدارة الحرب ؛ كان السبب في الهزيمة ؛ فرغم أن الإمام عبدالله قد خضع لرأي الغالبية بتنصيب أخوه فيصل بالمعركة ؛ ورغم أنه أرسل قوات العارض والخيالة بقيادة غصاب العتيبي ؛ إلا أن الأمر لايعدو واحداً من اثنين , الأول : أنه فيما يبدو قد اتفق الطرفان – فيصل وعبدالله – أن تبقى تلك القوات القادمة من العارض خارج المعركة كاحتياطي عام كما ذكر الرافعي ؛ وكما لاحظ المؤرخون أن الخيالة السعوديون في المعركة قليلون مما يعني أنهم كانوا غير مشاركين وأنهم خارج أرض المعركة كاحتياطي , وإما الثاني : أن الإمام قد أعطى قائد تلك القوة غصاب العتيبي – الموالي للإمام عبدالله ولاء خاصاً وقوياً- أوامر صارمة بعدم تعريض القوة الرئيسية للدولة لأية مخاطر , ونرجح أنه قد نفذ توجيهات الإمام بأن يحافظ قائد الخيالة على الجيش الأوسط لأنه عماد الدولة وأن عليه الانسحاب من المعركة بمجرد انقلاب الظروف القتالية فجأة ؛ كإجراء احتياطي يضمن سلامة الدولة وهو أسلوب الإمام الشديد الحذر حتى الهوس ؛ و أن عليه الانسحاب من المعركة فوراً إلى نجد في حالة اليأس من نتيجة المعركة .
وهذا التحليل يتفق مع النص الذي ذكره ابن بشر من أن الجيش السعودي (( لم يقتل إلا أقل القليل نحو المائة )) , مما يؤكد أنه وعلى خلاف ما كان يأمله قائد الجيوش السعودية بالمعركة فيصل بن سعود لم ينسحب الاحتياطي العام والخيالة إلى تربة للقاء جديد مع قوات التحالف ؛ بل اتجه دون أمره إلى نجد ولم يفقد سوى مائة من أفراده .
هذا فضلاً عما يذكره بوركهارت بأنه قبيل هذه المعركة قد وصل الذهب إلى قلب الجيش السعودي (( ووصل إسراف [محمد علي باشا ) في تبذير الدولارات من حوله إلى قلب الجيش الوهابي ذاته )) (107) , وهو ما يؤكده مؤرخ معاصر هو هارفارد جونز بريدجز حيث يقول ” لقد تمكن محمد علي عن طريق الصبر وتوزيع مبالغ كبيرة من المال من إقناع عدد كبير من القبائل العربية بالدخول في تحالف معه ” , ” لقد كانت للوفرة التي اتسم بها توزيع الباشا لهداياه أثراً كبيراً ” (108)ويتفق أمين سعيد مع هذا الطرح فيذكر أن محمد علي قد أرسل لنائبه في مصر يأمره إرسال نجدات قوية مع كمية كبيرة من الذهب , حيث اعتمد سياسة توزيع هذا المال والهدايا على شيوخ قبائل هناك لتنفض من حول السعوديين وتنضم إليه ” وقد ” استعان ببعض السماسرة والعملاء فأدرك نجاحاً يفوق ما أدركه في ميادين القتال ” (109) , و نحن هنا نعني أن الهزيمة قد يكون سببها المال ؛ من قبل بعض المدسوسين في داخل الجيش السعودي باسم الجهاد بينما هم يسعون لإثارة الفوضى في وسط جيش متحمس تدفعه العقيدة ؛ فأولئك المندسين يمكنهم أن يؤثروا على معنويات الجيش ساعة الحسم بالمعركة ؛ حيث انصرفوا إلى بلدانهم بدلاً من انتظار أوامر قائد الجيش.
ونحن هنا نرى أنه من المرجح إذاً أنه قد حدث انشقاق داخل الجيش بعد أن اتضحت نتيجة المعركة ؛ بحيث أصبح الموقف يلفه خلفيات المواقف السياسية للقيادة السعودية في مرحلة ما قبل معركة وادي بسل ؛ حيث أنه من المدهش إلى درجة كبيرة ؛ أن الجيش القادم من القصيم أي من قبل الإمام عبدالله لم يقتل منه إلا مائة فقط ؛ ولعلنا نرجح أيضاً أن الخلافات والانقسام الذي عصفت بالقيادة السياسية والعسكرية قبيل توجه فيصل بن سعود إلى ميدان المعركة – والتي أشار إليها الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب – في مقاماته المطبوعة في الجزء التاسع من الدرر السنية في الأجوبة النجدية – كانت سبباً في الهزيمة بأي وجه من الوجوه .
لقد كانت معركة وادي بسل انتصاراً ساحقاً وسريعاً لقوات التحالف ؛ بحيث تقدمت نحو تربة لتتخذها قاعدة متقدمة لها بدلاً من الطائف ؛ ومنها انطلق محمد علي باشا لتصفية الوجود السعودي في عسير ؛ لقد كانت معركة بسل من الخطورة بمكان أن كانت نقطة التحول في الصراع الدائر بين القوات السعودية وعدوها – كما يقول لوريمر – وهي بلا شك (( تُعد من أهم المعارك )) ليس (( في تاريخ مصر الحربي ))(110) فحسب ؛ بل على مستقبل الدولة السعودية نفسها وكما قال د. محمد آل زلفة فقد كانت (( هزيمة القوات السعودية في معركة بسل الهزيمة الفاصلة في تاريخ الحروب السعودية / المصرية … حيث كانت بداية النهاية الحقيقية للدولة السعودية الأولى )) (111), وقد غنم محمد علي كل معسكر الجيش السعودي بما قدره في رسالته لأهل المدينة بخمسة ألاف بعير وخمسمائة من الخيام وكافة الأمتعة والمؤن (112) , حيث تم تصفية جيوب المقاومة السعودية بالجنوب ثم نقل ميدان العمليات الحربية إلى قلب الدولة السعودية في نجد .
د.صالح السعدون
رئيس قسم الدراسات الاجتماعية
كلية التربية والآداب
بجامعة الحدود الشمالية

[/size][/color]

1٬767

الكاتب د.صالح السعدون

د.صالح السعدون

د.صالح السعدون مؤرخ وشاعر وأكاديمي / لدينا مدرسة للتحليل السياسي غير مألوفة..

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة