زعماء العرب وشقاء نسائهم

من النعمان بن المنذر..وحتى صدام حسين مروراً بالمعتمد بن عباد..
زعماء العرب وشقاء نسائهم

16/3/1427 هـ الكاتب د.صالح السعدون

زعماء العرب وشقاء نسائهم..

من النعمان بن المنذر..وحتى صدام حسين مروراً بالمعتمد بن عباد..

كل أمة من الأمم لها نموذجها بالحياة , نظام اجتماعي مميز خاص بها دون باقي الأمم , كثيراً ما أدى ذلك النظام وتلك القيم والعادات إلى محن وحروب من أجل الدفاع عن تلك القيم التي تؤمن بها وتدافع عنها تلك الأمة . وكان العرب قد خصوا المرأة العربية كواحدة من أهم تلك القيم بوضع خاص ينم عن اهتمام غير عادي بالنصف الثاني من المجتمع العربي , فهي إلى جانب كونها محور الشعر والجمال , فهي أيضاً شرف الأمة التي تدافع عنها وقد يتسامح العرب بأسر فارس من فرسانهم , بيد أنهم لا يركنوا إلى الراحة وهناك امرأة عربية أسيرة لدى عدوهم , والموضوع يطول ولكن نريد أن نتتبع ثلاثة قصص في ثلاثة عصور مختلفة لأسر حكام عرب اتصفوا بصفات مشتركة أهمها الأنفة والعناد والقوة وهم النعمان وأسرته والمعتمد بن عباد وحتى صدام حسين مع الملك والرياسة والمبادئ ومعاناة أسرهم اللواتي دفعن ثمنا غاليا لمواقف هؤلاء الزعماء تحت ضغط الشرف والمبادئ .

فمعروفة قصة النعمان بن المنذر ملك المناذرة في الحيرة وأسرته التي كانت ابنته هند بنت النعمان تعيش كأميرة عربية يتلقف أخبارها أفراد المجتمع العربي وما يروى عنها من جمال أخاذ لا وصف له – بما يشبه ما كان يحدث من تلقف وسائل الأعلام لأخبار ديانا سبنسر في الثمانينيات من القرن الماضي وحتى وفاتها – ولكن حين أراد كسرى فارس أبرويز أن يزوج ولي عهده من هند بنت النعمان وقع النعمان في شرك أعدائه الذي نصبوه له , فالأنفة والكبرياء والشموخ العربي أبيا عليه أن يتزوجها رجل من غير العرب حتى وإن كان كسرى فارس بعد سنوات , ودفع النعمان عمره ثمناً لمبادئه وشيمه العربية حيث رمي تحت أرجل الفيلة وسط ضحكات الطبقة العليا في عاصمة كسرى المدائن فتشردت بناته وزوجته مستضافة من قبيلة بكر بن وائل , ومعروفة بقية القصة .

ومن النعمان حتى المعتمد بن عباد في أشبيلية حوالي خمسة قرون , حيث بقيت هذه الأمة العربية شامخة بمبادئها مثل الجبال لا تتغير رغم تغير الظروف والأزمنة ورغم تغير الحكام غير أن الإسلام في حقيقة الأمر أطَّر هذه الأمة بمبادئها فقد غيَّر الغث وبدَّله وأثبت وحافظ على القيم الثمينة , و لهذا فقد ظلت الأمة ثابتة كالطود العظيم .

وفي عهد المعتمد بن عباد كان المسلمين في عهد ذل وخوف وضعف , وكان الفونسو ملك الأسبان بمساعدة البابا والنصرانية يقوم بحرب صليبية شاملة لطرد العرب من القارة الأوروبية وشبه الجزيرة الأندلسية ( الأيبيرية ) , وحين أرسل الفونسو الإنذار الأخير للمعتمد بن عباد بتسليم مجموعة من المدن والحصون التابعة لأشبيلية لم يجد المعتمد بن عباد وهو يناقش ابنه وولي عهده إلا موقف العزة والكرامة حيث استدعى رجل يعرف أنه من الجلافة أن قد يعامله بمنتهى القسوة ويكون عليه مثل الفونسو الأسباني غير أن يوسف بن تاشفين وإن كان قاسياً على المعتمد فإنه أرحم للإسلام والأمة من الفونسو , فاجتمع بابنه وولي عهده الرشيد أبي الحسن عبيدالله على إنفراد فقال له (( أنا في هذه الأندلس غريب , بين بحر مظلم وعدو مجرم , وليس لنا ولي ولا ناصر إلا الله تعالى , وإن إخواننا وجيراننا ملوك الأندلس , ليس فيهم نفع ولا يرجى منهم نصرة , ولا حيلة إن نزل بنا مصاب أو نالنا عدو ثقيل , وهو اللعين أذفنش (الفونسو) وقد أخذ طليطلة من ابن ذي النون بعد سبع سنين , وعادت دار كفر , وهاهو قد رفع رأسه إلينا , وإن نزل علينا من طليطلة ما يرفع عنا حتى يأخذ أشبيلية , ونرى من الرأي أ ن نبعث إلى هذه الصحراء وملك العدوة , نستدعيه الجواز ليدفع عنا هذا الكلب اللعين , إذ لا قدرة لنا على ذلك بأنفسنا , فقد تلف لحاؤنا, وتدبرت بل تبردت أجنادنا , وأبغضتنا العامة والخاصة , )) فعارضه ولي عهده وقال ((يا أبتِ, تدخل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا , ويبدد شملنا )) فقال المعتمد (( أي بني , والله لا يسمع عني أبداً أني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنصارى , فتقوم علي اللعنة في منابر الإسلام مثل ما قامت على غيري , وحرز الجمال , والله , عندي خير من حرز الخنازير )) .فقال له ابنه (( يا أبتي افعل ما أمرك الله )) فقال : (( إن الله لم يلهمني بهذا إلا وفيه خير وصلاح لنا ولكافة المسلمين )) , وفي رواية أنه قال (( والله لئن أرعى الإبل عند يوسف ابن تاشفين خير لي من أن أرعى الخنازير عند اذفنش (ألفونسو) …)) .

هكذا تفعل المبادئ وهكذا هم قادة الأمة حين يضحون بمناصبهم من أجل المصلحة العامة للأمة , وبالفعل كان فعل ذلك البدوي بخصوص الفونسو رائعاً وقوياً , ولكنه فيما يخص المعتمد بن عباد كان مشيناً حتى ليكاد يودي بكل مآثر ذلك المجاهد الكبير فقد عامل المعتمد بكل قسوة ؛ وبكل أنانية ويشبه ما يسمى بجزاء سنمار , فقد صادر ملك ابن عباد وأرسله إلى أغمات عاصمة المرابطين الصحراوية بالمغرب ليعيش عيشة العذاب والبؤس هو وزوجته الرميكية وبناتها اللواتي اضطررن أن يغزلن ليبعن غزلهن لإطعام والديهن , كما اضطررن أن يمشين حفاة بدون نعل بعد أن كن يلعبن بالطين الممزوج بالطيب والمسك من الرفاهية .وهي القصة المشهورة (( ولا يوم الطين )) , ذلك أنها رأت الناس يمشون في الطين فاشتهت المشي في الطين , فأمر المعتمد , فسحقت أشياء من الطيب , وذرت في ساحة القصر حتى عمَّته , ثم نصبت الغرابيل وصُبّض فيها ماء الورد على أخلاط الطيب وعجنت بالأيادي حتى عادت كالطين وخاضتها الرميكية مع جواريها , وغاضبها المعتمد بن عباد في بعض الأيام , فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط , فقال : ولا يوم الطين ؟ فاستحيت واعتذرت وهو مصداق قول نبينا عليه الصلاة والسلام في حق النساء (( لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت : ما رأيت منك خيراً قط )) .

وفي أول يوم عيد بسجنه بأغمات أفطر على تمرات وقد دخل عليه بنيه وبناته عليهن أطمار وأقدامهن حافية , فقال المعتمد بن عباد شعرا يوزن بالذهب:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا *فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعة *يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

برزن نحوك للتسليم خاشعة * أبصارهن حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافية * كأنها لم تطأ مسكاً و كافـورا

لا خـد إلا تشكى الجدب ظاهره *وليس إلا مع الأنفاس ممطورا

أفطرت في العيد لا عـادت مساءته* فكان فطرك للأكباد تفطيرا

قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً ** فردك الدهر منهيـاً ومأمورا

من بات بعـدك في ملك يُسَرُّ به ** فإنما بات بالأحـلام مغرورا

وحيـن تم القبض على المعتمد بن عباد في قصره بعد دفاع بطولي مجيد لفارس عربي شهم كبير ووقع النهب بمدينة أشبيلية وقصر المعتمد بما يشبه ما رأيناه أيام سقوط بغداد عام 2003م , كان من بين من سبي واحدة من بنات المعتمد نفسه وأسمها بثينة وهي تشبه من أمها اعتماد الرميكية جمالاً وثقافة ونظماً للشعر ولم يزل المعتمد وزوجته الرميكية في وله عليها لا يعلمان من أمرها شيئاً, حيث اشتراها أحد تجار أشبيلية ووهبها لابنه وحين هيئت له وأراد الدخول عليها امتنعت وأظهرت نسبها , وقالت لا أحل لك إلا بعقد نكاح إن رضي أبي بذلك وأشارت عليهم أن تكتب كتابا لأبيها بخط يدها وانتظار جوابه وكان أن كتبت بخط يدها من نظمها فقالت مخاطبة لأبيها :

اسمع كلامي واستمع لمقالتي فهي السلوك بدت من الأجياد

لا تنكروا أني سبيت وأنني بنت لملك من بني عبــــاد

ملك عظيم قد تولى عصره وكذا الزمــان يؤول للإفساد

لما أراد الله فرقة شـــملنا وأذاقنا طعم الأسى عن زاد

قام النفاق على أبي في ملكه فدنا الفــراق ولم يكن بمراد

فخرجت هاربة فحازني أمرؤ لم يأت في إعــــجاله بسداد

إذ باعني بيع العبيد فضمني من صــانني إلا مـن الإنكاد

وأرادني لنكاح نجل طاهر حسن الخلائق من بني الأنجاد

ومضى إليك يسوم رأيك في الرضى ولأنت تنظر في طريق ر شادي

فعساك يا أبتي تعرفني به إن كان ممن يرتجى لوداد

وعسى رميكية الملوك بفضلها تدعو لنا باليمن والإسعاد

وحين وصل شعرها لأبيها وهو في أغمات , سُر هو وأمها بحياتها , وأشهد على نفسه بعقد نكاحها للصبي وعلق المقري على هذه القصة بقوله وأخبار المعتمد تذيب الأكباد .

وتستمر مأساة هذا الزعيم العربي الكبير , كبير بهمته وكبير بقراره باستدعاء يوسف بن تاشفين لحماية الإسلام بالأندلس رغم معرفته سلفاً بمصيره الذي ينتظره من ابن تاشفين , وكان واحد من أبنائه كما يروي ابن اللبانة أنه رأى أحد أبناء المعتمد وهو غلام وسيم, وقد اتخذ الصياغة صناعة له يتكسب منها لقمة العيش وكان يلقب أيام ملك ودولة

أبيه بلقب سلطاني هو ((فخر الدولة )) فنظر إليه وهو ينفخ الفحم بقصبة الصائغ وقد جلس في السوق يتعلم الصياغة فقال ابن اللبانة :

شكاتنا لك يافخر العلا عظمت والرزء يعـظم ممـن قدره عظما

طُوِّقتَ من نائبات الدهر مُخْنُقَةً ضاقت عليك وكم طوقتنا نِعَما

وعاد طوقُكَ في دكان قارعة من بعد ما كنت في قصر حكى إرَما

صرَّفـت في آلة الصواغ أنملة لم تدر إلا الندى والسيف والقلما

يدٌ عهدتك للتقـبيل تبسطها فتستقل الثريا أن تكون فما

يا صائغاً كانت العليا تُصاغ له حلياً وكان عليه الحًليُ منتظما

للنفخ في الصور هَوْلٌ ما حكاه سوى هوْلٍ رأيتُك فيه تنفخ الفحما

وددت إذ نظرت عيني إليك به لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى

ما حطَّك الدهر لما حطَّ عن شرفٍ ولا تحيَّف من أخلاقك الكرما

لُحْ في العلا كوكباً إن لم تلًحْ قمراً وقُم بها ربوة , إن لم تقم علما

واصبر فربما أحمدت عاقبـــة من يلزم الصبر يحمد غبَّ ما لزما

والله لو أنصفتك الشهب لا نكسفت ولو وفى لك دمع الغيث لا نسجما

أبكي حديثك حتى الدُّر حين غدا يحكيك رهطاً وألفاظاً ومبتســـما

وقد حاول أحد أبناء المعتمد وأسمه عبدالجبار أن يقود ثورة ضد يوسف ابن تاشفين فقام ابن تاشفين بوضع الحديد على المعتمد زيادة في حرصه على إبقائه بالسجن وليحول دون هروبه , فقال المعتمد يخاطب سجانه العجيب :

قيدي أما تعلمــني مســـلماً أبيْــتَ أن تشــفق أو ترحــما

يُبصِّـــرُني فــيك أبو هاشـم فينثـني القــلب وقد هُشِّـمــا

ومات في أغمات في سجنه في أغمات حتى وفاته رحمه الله عام 488هـ .

وفي أوائل تاريخنا المعاصر دفعت الأسرة السعودية الحاكمة في عهد الدولة السعودية الأولى ثمناً غالياً وقاسياً من حياة أفرادها رجالاً ونساءً جراء المواقف الإسلامية العظيمة التي وقفها إمامها الثالث الإمام سعود الكبير رحمه الله بحيث تكتلت قوى كبرى دولية وقوى إقليمية وأخرى محلية لتدمير عاصمة الدولة السعودية وإحراق مساكنها وأرشيفاتها ومكتباتها بعد تدميرها وأسر الكثير من أفراد الأسرتين آل سعود وآل الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله بحيث عانوا من الأسر والإقامة الجبرية بالقاهرة أزمنة طويلة وقد قال الشعراء الكثير من المراثي بتلك الدولة الفتية التي نالتها يد الغدر لمحمد علي باشا حاكم مصر آنذاك فقال أحدهم :

عام به الناس جالوا حسبما جالوا ونال منا الأعادي فيه ما نالوا

قال الأخلاء أرخه فقلت لهم أرخت , قالوا بماذا , قلت : غربال .

وقال آخر :

وكم دمروا من مربع كان آهلاً فقد تركوا الدار الأنيسة بلقعا

فأصبحت الأموال فيها نهائباً وأصبحت الأيتام غرثى وجوعا

وفر من الأوطان من كان قاطنا وفرق إلف كان مجتـمعـا معـا

مضوا وانقضت أيامهم حين خلفوا ثناء وذكرا طـيبا قد تضـوعا

وفي عصرنا هذا رأينا أيضاً الرئيس العراقي صدام حسين الذي فقد حكمه ودولته وفقد ابنيه وحفيده , كما نسمع أن أبنتيه وزوجتيه خارج العراق , ومع هول مصيبته إلا أن مصيبة المعتمد الشخصية لا تدانيها مصيبة .

743

الكاتب د.صالح السعدون

د.صالح السعدون

د.صالح السعدون مؤرخ وشاعر وأكاديمي / لدينا مدرسة للتحليل السياسي غير مألوفة..

مواضيع متعلقة

التعليقات مغلقة