دراسة حول ديوان الكناري المهاجر لابن سعدون بعنوان
دراسة حول ديوان " الكناري المهاجر " لابن سعدون .
ديوان الكناري المهاجر من بواكير الانتاج الأدبي و الشعري للشاعر الدكتور صالح السعدون , هذه دراسة مبسطة حول الديوان .. بعنوان " نعتذر للورد " ….
أستاذة/ نور الرفاعي – فرنسا — باريس
]دراسة حول ديوان ” الكناري المهاجر ” لابن سعدون .
ديوان الكناري المهاجر من بواكير الانتاج الأدبي و الشعري للشاعر الدكتور صالح السعدون , هذه دراسة مبسطة حول الديوان ..
نعتذر للورد ………
” الكناري المهاجر ” في حديقة الشعر الفواحة ، نزهة من الطراوة وابتهاج اللون
ما الذي يدعونا الى قراءة الشعر في عالمنا المتداعي هذا إن لم تكن تلك الرغبة في الارتحال الى مناخات أخرى أشد التحاما وحميمية ؟
من هنا ، تأتي الدعوة ملحاحة لقراءة هذا الديوان : ” الكناري المهاجر ” للشاعر ” أبن سعدون ” ففيه ضمانة التنقل عبر أجواء ممتعة تشبه نزهة كنار في خميلة ورود .
لكن الرحلة لا تعد فقط بإجتياز حدود السآمة والضجر ، هي ربما تبدأ كذلك لكنها تتحول رويدا رويدا الى صحبة طريق تعدك بإجتياز مسافات أ ُخر تكتشفها لاحقاً بقدر ما تتوغل في حنايا الديوان وترافق الشاعر تقصيه للكامن ، ما بين الصحبة والذات ، بين اللقاء وتداعياته ، بين غمرة الانفعال وبهاء اللحظة المعاشة . تفاصيل رائعة نجدها في حكايا حب تشبه أكثر ما تشبه ، بوح صديق ، يسر الينا بأفراحه وشجونه ويلقي بنا ، كحديث آخر الليل ، ما بين الذكرى و الحلم ……. وتجدنا نسوح ، على وقع المسامرة ، بين الازقة الخالية ومعارج الهضاب والشعاب ، نبتل بماء النهر ونلعب بحصاه وتأتي الينا الريح مثقلة برائحة زهر الخزامى ، و ترانا نشاهد تشكلات القمر كاملاً ومنتقصاً ، ونعد النجوم في ليالي السهر ، لنعود بعدها ، ونحن على عطش ، إلى غربة الذات ، ونكتشف بأننا ” لا رحنا ولا جينا ” ، وحده الشاعر يبقى مرتحلاً ، يحمله الشوق الآتي من البعيد ، ذلك الشوق الذي يشبه البحر إتساعاً وعمقاً ، يغري دائما بالسفر ، إرتحالاً مزمناً وسرمدياً ، يسكنه هاجس اللقاء .
ببراءة عشق نادرة ، يحكي لك الحكاية ، وببساطة مذهلة ينقلك الى منازل القصة – الحدث لكأنك تعيش فيها . وستكتشف فيما بعد بأنها كانت مجرد ذريعة للقاء ، وبأن ما يراد به من الحكاية ليس الحكاية ، بل هو الإقتراب منها ومجاورتها ، هو السفر إليها كمساحة عشق نادرة بإمتياز ، وفريدة بإمتياز ، ولإكتناه نبضها و اللحظة الجوهرية التي هي منها بمنزلة الخافق من الصدر ، تلك اللحظة التي لامست فيها الروح أعماق القلب فأنتبه وإستيقظ : من فرح لقاء ، من زفرة وداع ، من ألم الجنون أوحسرة الندم …………. ، بعدها ، تنهمر الآهات كالمطر ، ولا بد من وقت للصمت ، لا بد من وقت للتأمل لكي ينتظم القول وتكتمل القصيدة هنا كما في قصيدة “الكوخ البحري القديم ” :
أتذكرنا …
ونحن في ليالينا
نطرب في أغانينا
بلا وتر
ولا مزمار يشجينا
ولكن صوتك المحزون
يطربنا …. مع القمر
وتبكينا رؤى المجنون
ولا قيسٌ ….
بنا يدري
…………….
ولعل البساطة في الاسلوب ميزة رئيسة في هذا الشعر ، فالكلام جدا رقيق ومنخول ، بل يخيل اليك بأنه مصفى بشاش معقم او أنه مقطر ، كما ماء الورد او ماء زهر الليمون ، ليصبح شديد الصفاء ، شديد النقاء ، شديد الطراوة ، يفوح منه عطر فريد و يظل يرق و يشف حتى تصبح نفس الشاعر لك مرئية ، وستستعير منه عيونه لترى بها الاشياء كما يراها هو بقلبه وبمنطقه الخاص و بهذه الحساسية النادرة التي ما تميز عادة الشعراء . عبر هذه الشفافية سيصل بك الى المعنى العميق الكامن في ثنايا الهمس دون مواربة ودون تعقيد ودون ان تفسد زخرفات اللغة حميمية الصحبة كما في قصيدة ” كوخ القمر “:
وحين أتيتِ إليَِّ ….
بنيتُ لنا عاشقي ….
كوخَ فوقَ القمر
زرعتُ حواليه ….
أزهى الورود
وأسقيتها قطرات المطر
……………………….
ليس من السهل ابداً أن نقول الاشياء بسهولة ، أفليس هذا ما نسميه عادة ” السهل الممتنع ” ؟ ومع هذا فهنا ليست هي الغاية ، الغاية هي ان هذه العفوية الدافئة تخلق حالة من القرب والاطمئنان تعطي لهذا الشعر بعده الإنساني المميز وتجتاز المسافة الفاصلة بين ظاهر الحكاية الى آفاق أخرى كامنة في النفس وعميقة بحيث يصعب التفكير فيها عادة او التحدث عنها ، لكن صديقنا الشاعر آلى على نفسه ان يقول إلا أصدق ما عنده ، ولذلك فلسوف نراه يقتحم بجرأة مساحات جديدة غائرة في الذات ومحتجبة عادة تحت غطاء سميك من التقاليد والتربية القسرية .
هنا لا يمكنك ان تقف متفرجاً بدون إنفعال : فالتصوير الشعري في هذه القصائد بلغ حدا من البراعة سيجعلك تعيشه وكأنه شريط سينمائي مسجل بالصوت والصورة ولسوف ينقلك الى اجواء القصيدة في بضعة سطور كما في قصيدة ” في الفجر ألقاك شبقاً ” :
في الفجر
أو قبل الفجر
والنجم الباهت ألوان
يستمهل بالليل الفاني
أراك وأنت بقربي
تتحسسك أطراف بناني
تغشاكي عيوني بحنان …..
………………………
أو كما في قصيدة ” موعد مع المحيط ” حيث يصف المشهد العام :
ودنت بقربي
وانثنت متأرجحة
بين الهجوم …….
وبين صمتٍ ووجوم
والحاضرون ……..
كل عيونهم …….
حولي تحوم ……….
وكل منا صار
في هذا المساء
ككوكب ٍ …. صرنا نجوم
………………………..
فاللحظة المروية هي دائما منتقاة بعناية حيث يتكثف في المشهد الواحد تصوير الحدث وأبراز الحالة الانفعالية بحرارتها وجيشانها والتي تعطي للنص جماليته وتألقه كما في قصيدة ” اللقاء الغريب ” :
ولُذت بصمتٍ رهيبٍ ….. طويل
ورمشٍ طويل
ينام على خدها ……..
مثل سعف النخيل
ودمع ٍ ثقيل ٍ …….. بمحجرها
مثل ….. ماءٍ ثقيل
سيقتلني …. يفجرني
ويسحقني
إذا لم أوفق
بنزع الفتيل ….
…………………
هذه المصداقية في التصوير ونقل الحالة الإنفعالية بحسية عالية تمثل بنظري النوع الشعري المتميز للشاعر وسط خضم من التجارب الشعرية المعاصرة التي يغلب عليها طابع الإستقصاء الفني والجمالي لمجالات غير مطروقة بعد ، خصوصا في ظل غياب مرجعية الوزن والقافية كضمانة لتصنيف النص في باب الشعر ، و بحيث أن هاجس البحث عن جمالية التعبير طغى عليه هاجس استنباط المعنى الاعمق والاغنى في التجربة الذاتية وتقديمها بقالب فني قادر على شد انتباه القارىء – المتلقي وإحداث انفعال ما لديه تماما كما يحدث عادة امام اية لوحة فنية .
فالقصائد التي بين ايدينا هنا تعبر عن ذاتها بحسيتها وضوئيتها بحيث ان الروح والجسد متلازمان أمام التجربة ، وبحيث ان الانخطاف الوجداني الذي نلمسه احيانا دون ان يكون حضوره مقصوداً ربما ، أو هكذا يتهيأ لي ، يوسع المكان غالباً ، لحركة الجسد الجموح والمتوثب ليؤكد حضوره بإستمرار بشكله الواقعي الملموس كما في قصيدة ” الفارس العاشق ” :
أريد النوم في الوديان
أريد الركض في الكثبان
فأمزجتي …. كما طفل
تريد السهل أحياناً ….
وأحياناً تثور …. تفور
كالبركان
هذه الشعلة المتوقدة هي نبض الحياة ، حمى التوثب تملأ الجسد حنيناً وناراً ، تملأه حياةً وحركة ، لأن تجميد الحركة هو تجميد الحياة : هنا على الشاعر ان يكون متمرداً لكي يضع حدا فاصلا بينه وبين الجمود الذي يحيط به كما في قصيدة ” اللقاء الغريب ” السالفة الذكر :
فها هو قيصر غير المتوج عيب
يلاحقنا كل لحظة
وفي كل همسة
وفي كل نظرة
وشكل منامي
وفي اللقمة التي اشتهيها
واحلام نومي
وإفراط ضحكي
……………..
وفي رحلة الحنين والأنخطاف المتوهج دائماً بشمس العشق المتجددة هذا يبقى الجمال هو القيمة الأساسية ، ويبقى جمال المرأة هو الملهم الأول رغم أننا سنراها أيضاً بواقعية و بكل الوجوه ، جمال المرأة يضيء العالم ومحبتها تكشف لنا محبة العالم كما في قصيدة ” موعد مع المحيط ” :
بلد الجمال وانت منه جميلة
من أجل عين ….
كالمهاة أحبه
وأجل صيدا وأهلها ….
وبكم أذوب
نعم .. بكم يا معجبة
صيدا بكم تزهو
تفاخر فيكم …
كل المدائن …
من دمشق وقرطبة
وتطول بنا الرحلة ولا نرتوي من الرحيل ، إلا ان الديوان يعدنا بأسفارٍ جديدة ربما ، يطل منها مجدداً هذا الفرح الهادىء يزين وجهنا بإبتسامة لكي لا تلبسنا الرصانة قناعاً فوق قناع ولكي لا تنسينا تقلبات واقعنا اليومي ملامح وجهنا الأصلية . هذا الشعر هو ليس من نوع الفانتازيا الخيالية لعالم مختلق ، بل هو عالمنا العادي برؤية مختلفة ، حتى لا تبقى شمس الخيبة هي المظلة الوحيدة التي تحجب بنورها سماء هذا العالم . ربما تكون بإستطاعتك وانت تقرأ هذا الديوان بأن تتخيل الشاعر في حياته اليومية وبإمكانك ان تستخلصه من خلال قصائده وتعيد تكوينه بالكلمات فلا تخطىء .
وأخيرا نعتذر للورد .. وتحية رقيقة لشاعرنا ابن سعدون .
أستاذة / نور الرفاعي – فرنسا — باريس